فانكشفوا منهزمين إلى منازلهم، قال عباد: ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته يصلي فأخبرته. قالت أم سلمة: يرحم الله عباد بن بشر، فإنه كان ألزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبته يحرسها أبدا. فلما أصبح المشركون ورأوا الخندق قالوا: إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تصنعها، ولا تكيدها. وقال بعضهم: إن معه رجلا فارسيا فهو الذي أشار عليه به. قالوا: فمن هناك إذا؟ ونادوا المسلمين، وكان بينهم الرمي بالنبل والحجارة، والخندق حاجز بين الفريقين.
وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوما، ويغدو خالد بن الوليد يوما، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما، ويغدو ضرار بن الخطاب الفهري يوما، فلا يزالون يجيلون خيلهم، ويتفرقون مرة، ويجتمعون أخرى، ويناوشون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقدمون رماتهم.
ذكر إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصالحة غطفان لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم نقض بني قريظة العهد أرسل إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف، وهما قائدا غطفان - وأسلما بعد ذلك - فلما جاءا في عشرة من قومهما قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرأيتما إن جعلت لكما ثلث تمر المدينة أترجعان بمن معكما، وتخذلان بين الاعراب؟ " فقالا: تعطينا نصف تمر المدينة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك، فأحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة والدواة، وأحضر عثمان بن عفان فأعطاه الصحيفة، وهو يريد أن يكتب الصلح بينهما، وعباد بن بشر قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقنع في الحديد، فأقبل أسيد بن حضير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه الرمح، ولا يدري بما كان من الكلام، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعيينة بن حصن ماد رجليه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم ما يريدون قال: يا عين الهجرس اقبض رجليك، أتمدهما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنفذت خصيتيك بالرمح! ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن كان أمرا من السماء فامض له، وإن كان غير ذلك فوالله لا نعطيهم إلا السيف، متى طمعوا بهذا منا؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فاستشارهما في ذلك وهو متكئ عليهما، والقوم جلوس، فتكلم بكلام يخفيه، وأخبرهما الخبر.
وقال ابن إسحاق: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشارهما في ذلك فقالا: يا رسول الله إن كان الامر من السماء فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر به ولك فيه هوى فامض له سمعا وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف. وأخذ سعد بن معاذ الكتاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب،