الباب التاسع عشر في غزوة الخندق وتسمى غزوة الأحزاب، وهي الغزوة التي ابتلى الله فيها عباده المؤمنين، وبعث الايمان في قلوب أوليائه المتقين، وأظهر ما كان يبطنه أهل النفاق، وفضحهم وفزعهم، ثم أنزل الله تبارك وتعالى نصره ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وأعز جنده، ورد الكفرة بغيظهم، ووقى المؤمنين شر كيدهم، وحرم عليهم شرعا وقدرا أن يغزوا المؤمنين بعدها، بل جعلهم المغلوبين، وجعل حزبه هم الغالبين.
وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلى بني النضير، وساروا إلى خيبر، وبها من يهود قوم أهل عدد وجلد، وليس لهم من البيوت والأحساب ما لبني النضير، فخرج حيي بن أخطب وكنانة بن أبي الحقيق وهوذة - بفتح الهاء وبالذال المعجمة - ابن قيس الوائلي، وأبو عامر الفاسق، في جماعة سواهم، إلى مكة فدعوا قريشا وأتباعها إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين حزبوا الأحزاب، فقالوا لقريش: نحن معكم حتى نستأصل محمدا، جئنا لنحالفكم على عداوته وقتاله، ونشطت قريش لذلك، وتذكروا أحقادهم ببدر، فقال أبو سفيان: مرحبا وأهلا، أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد. وأخرج خمسين رجلا من بطون قريش كلها، وتحالفوا وتعاقدوا وألصقوا أكبادهم بالكعبة، وهم بينها وبين أستارها، لا يخذل بعضهم بعضا، ولتكونن كلمتهم واحدة على محمد، ما بقي منهم رجل.
وقال أبو سفيان: يا معشر يهود، أنتم أهل الكتاب الأول والعلم، أخبرونا عما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد: أديننا خير أم دينه؟ فنحن عمار البيت، ننحر الكوم، ونسقي الحجيج، ونعبد الأصنام. فقالت يهود: اللهم أنتم أولى بالحق منه، إنكم لتعظمون هذا البيت، وتقومون على السقاية، وتنحرون البدن، وتعبدون ما كان يعبد آباؤكم، فأنتم أولى بالحق منه.
فأنزل الله سبحانه وتعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا. أم لهم نصيب من الملك، فإذا لا يؤتون الناس نقيرا. أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة، وآتيناهم ملكا عظيما. فمنهم من آمن به، ومنهم من صد عنه، وكفى بجهنم سعيرا) [سورة النساء من 50: 54].
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم، ونشطوا إلى ما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتعدوا لذلك وقتا أقتوه.