قلنا: متى، إذا كان الفعل المأمور به مبينا، أو إذا لم يكن مبينا؟ الأول مسلم والثاني ممنوع. وإن سلمنا ذلك، لكن لا نسلم أن الحاجة داعية إلى معرفته مع قطع النظر عن وجوبه وعدم المؤاخذة بتركه، بدليل ما قبل الامر.
وأيضا فإنه لما نزل قوله تعالى: * (أقيموا الصلاة) * مع أنه لم يرد بها مطلق الدعاء إجماعا لم يقترن بها الدعاء اجماعا لم يقترن بها البيان، بل أخر بيان أفعال الصلاة وأوقاتها إلى أن بين ذلك جبريل للنبي (ص)، بعد ذلك، وبين النبي (ص)، ذلك لغيره بعد بيان جبريل له.
وكذلك نزل قوله تعالى * (وآتوا الزكاة) * (2) البقرة: 43) مطلقا، ثم بين النبي (ص)، بعد ذلك مقدار الواجب وصفته في النقود والمواشي وغيرها من أموال الزكاة شيئا فشيئا.
وكذلك نزل قوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * (5) المائدة: 38) ثم بين بعد ذلك ما يجب القطع بسرقته في مقداره وصفته على التدريج. وكذلك نزل قوله تعالى:
* (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم) * (9) التوبة: 41) ثم نزل تخصيصه بقوله تعالى: * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) * (9) التوبة: 91) إلى غير ذلك من الأوامر العامة التي لم تبين تفاصيلها إلا بعد مدد.
فإن قيل: المؤخر في جميع هذه الأوامر إنما هو البيان التفصيلي، وليس فيها ما يدل على تأخير البيان الاجمالي. كيف وإن الامر إما أن يكون على الفور، أو التراخي، وتمام الاشكال ما سبق.
قلنا: وجواب الاشكالين أيضا ما سبق. وأيضا فإن العمومات الواردة في البيع والنكاح والإرث وردت مطلقة، والنبي (ص)، بين بعد ذلك على التدريج ما يصح بيعه وما لا يصح، ومن يحل نكاحها ومن لا يحل، وصفات العقود وشروطها، ومن يرث ومن لا يرث، ومقادير المواريث شيئا فشيئا. ومن نظر في جميع عمومات القرآن والسنة وجدها كذلك.
وأيضا فإنه لما نهى النبي (ص)، عن المزابنة، وشكا الأنصار إليه بعد ذلك، رخص لهم في العرايا، وهي نوع من المزابنة، مع أنه لم ينقل أنه اقترن بنهيه عن ذلك بيان مجمل ولا مفصل، وهو لا يخلو إما أن يكون ذلك نسخا أو تخصيصا وعلى كلا التقديرين فهو حجة على المخالف فيه.