وأما المعقول، فهو أن خبر الواحد راجح على القياس، وأغلب على الظن، فكان مقدما عليه. وبيان ذلك أن الاجتهاد في الخبر واحتمال الخطأ فيه أقل من القياس، لان خبر الواحد لا يخرج الاجتهاد فيه عن عدالة الراوي، وعن دلالته على الحكم، وعن كونه حجة معمولا بها، فهذه ثلاثة أمور.
وأما القياس فإنه إن كان حكم أصله ثابتا بخبر الواحد، فهو مفتقر إلى الاجتهاد في الأمور الثلاثة. وبتقدير أن يكون ثابتا بدليل مقطوع به، فيفتقر إلى الاجتهاد في كون الحكم في الأصل مما يمكن تعليله أو لا. وبتقدير إمكان تعليله، فيفتقر إلى الاجتهاد في إظهار وصف صالح للتعليل. وبتقدير ظهور وصف صالح يفتقر إلى الاجتهاد في نفي المعارض له في الأصل. وبتقدير سلامته عن ذلك، يفتقر إلى الاجتهاد في وجوده في الفرع. وبتقدير وجوده فيه، يفتقر إلى الاجتهاد في نفي المعارض في الفرع من وجود مانع أو فوات شرط. وبتقدير انتفاء ذلك، يحتاج إلى النظر في كونه حجة.
فهذه سبعة أمور لا بد من النظر فيها. وما يفتقر في دلالته إلى بيان ثلاثة أمور لا غير، فاحتمال الخطأ فيه يكون أقل احتمالا من احتمال الخطأ فيما يفتقر في بيانه إلى سبعة أمور. فكان خبر الواحد أولى.
وربما قيل في ترجيح خبر الواحد هاهنا وجوه أخر واهية آثرنا الاعراض عن ذكرها، لظهور فسادها بأول نظر.
فإن قيل: أما ما ذكرتموه من خبر معاذ، فقد خالفتموه فيما إذا كانت العلة الجامعة في القياس مقطوعا بعليتها وبوجودها في الفرع، كما تقدم.
وما ذكرتموه من الاجماع على تقديم خبر الواحد على القياس، فغير مسلم. فإن ابن عباس قد خالف في ذلك حيث إنه لم يقبل خبر أبي هريرة فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا لكونه مخالفا للقياس.
وأيضا فإنه رد خبر أبي هريرة في التوضي مما مست النار بالقياس وقال: ألسنا نتوضأ بماء الحميم، فكيف نتوضأ بما عنه نتوضأ؟.