أما الأول: فإنا نفرض ذلك فيمن لا إلف له بالشريعة والعادة أصلا.
ومن البين: أنه يحكم بعين ما حكمنا ويقطع بمثل ما قطعنا، أو نقطع النظر عن ملاحظة الشرع والعادة بالمرة ومع ذلك نجد من أنفسنا إدراك الحكم المذكور كذلك من غير ريبة.
وما قد يتوهم: من أن فرض انتفاء الشئ غير انتفائه في الواقع، فإذا كان الإلف بالشرع قاضيا بذلك كان ذلك سببا لإدراك العقل وإن فرض العقل انتفاء الشرع أو العرف مدفوع بأن العلم الحاصل من الأسباب إنما يكون بملاحظة العقل ذلك السبب، وإن فرض العقل انتفاء تلك الأسباب لا يحصل العلم بتلك الأشياء على ذلك التقدير.
ألا ترى أنه لو قطع النظر عن المقدمتين لم يحصل للنفس علم بالنتيجة، وإنما يحصل لها العلم بها مع ملاحظتها إما تفصيلا أو إجمالا، وكذلك العلم الحاصل من جهة الحواس كالإبصار والإسماع ونحوهما، فلو قطع النظر عن الإحساس وفرض عدمه لم يحكم العقل بشئ منها، وكذا الحال في الأحكام العادية كقبح المشي عريانا في المجالس والأسواق ومجامع الناس، والأحكام الشرعية حتى ضروريات الدين والمذهب - كوجوب الصلاة والصيام ونحوهما - فإنه لو قطع النظر عن ملاحظة العادة والشرع لم يكن هناك حكم بأحد الطرفين، مع أنا نعلم في المقام علما ضروريا بثبوت الحكم المذكور من دون تفاوت أصلا بين وجود الشرع والعادة وعدمهما.
والحاصل: أن العقل إذا قطع النظر عن جميع ما عداه وجد العلم المذكور حاصلا له، وهو دليل على كونه من الفطريات الأوليات، إذ لو لم يكن كذلك وكان متوقفا على أحد الأسباب لم يكن حكم العقل به كذلك.
فظهر بما قررنا ضعف ما قد يورد في المقام من أن الحكم في المقام ضروري حاصل من العادة فيتوقف العلم به على العلم بسببه في الجملة، لكن لما حصل ذلك وشاع ورسخ في النفوس وصار من الواضحات عندها بلغ في الوضوح إلى حيث استغنت النفس عن ملاحظتها فيحكم بها مع غفلتها عن السبب.