وأما أصالة البراءة ونحوها فإنما تفيد انتفاء الحكم بالنسبة إلينا وإن فرض ثبوته في الواقع، وكان الأظهر إدراج ذلك في أصالة النفي بعد حمل النفي على الأعم من الواقع والظاهر، بأن يقال: إن قضية الأصل النفي الواقعي مع انتفاء الدليل عليه بحسب الواقع والنفي في الظاهر مع انتفاء الوصول إليه في الظاهر وحينئذ ينبغي تعميم الحكم في تلك القاعدة بالنسبة إلى عام البلوى وغيره فيقال: إن عدم الدليل في الواقع. دليل على عدم الحكم في الواقع، وعدمه في الظاهر دليل على عدمه في الظاهر، فيرجع إحدى القاعدتين إلى الأخرى.
ولنفصل الكلام في الأصول الثلاثة المذكورة برسم مقامات ثلاثة:
المقام الأول: في أصالة البراءة والمعروف من المذهب ثبوت الأصل المذكور، بل لا يعرف قائل معروف بالبناء على الوجوب وثبوت التكليف بأمر وجودي من غير قيام دليل عليه، سوى ما ستعرف من بعض كلمات الأخبارية، بل عن المحقق في أصوله: أنه أطبق العلماء على أن مع عدم الدلالة الشرعية يجب إبقاء الحكم على ما يقتضيه البراءة الأصلية.
وذكر في المعالم في عداد أدلة القائلين بحجية الاستصحاب: أن العلماء متفقون على وجوب إبقاء الحكم مع عدم الدلالة الشرعية على ما يقتضيه البراءة الأصلية ولم يذكر بعد ذلك ما يومئ إلى تأمل منه في الاتفاق المذكور.
وقد حكى صاحب الحدائق مع أنه من عظماء الأخبارية الاتفاق على ما ذكر حيث قال: في مقدمات الحدائق والدرر النجفية بعد أن قسم البراءة الأصلية فيهما إلى قسمين:
أحدهما: أنها عبارة عن نفي وجوب في فعل وجودي إلى أن يثبت دليله، بمعنى أن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم عليه دليل، وهذا القسم مما لا خلاف في صحة الاستدلال به والعمل عليه، إذ لم يذهب أحد إلى أن الأصل الوجوب حتى يثبت عدمه، لاستلزام ذلك تكليف ما لا يطاق، وأشار في الأول إلى غيره من الأخبار الدالة على انتفاء التكليف مع الجهل، وقال أيضا في الدرر النجفية: إن كان الحكم المطلوب دليله هو الوجوب فلا خلاف ولا إشكال في انتفائه حتى يظهر