ولم يقولوا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وذهب الجاحظ إلى أن الصدق مطابقة الواقع والاعتقاد والكذب مخالفتهما معا وإن هناك واسطة وحاصله أن الخبر إما مطابق للواقع أو لا وكل منهما إما مع اعتقاد المطابقة أو اعتقاد عدمها أو الشك أو عدم الشعور والصدق هو المطابقة مع اعتقاد المطابقة والكذب هو المخالفة مع اعتقاد المخالفة والست البواقي وسائط بنيهما واستدل على ثبوت الواسطة بقوله تعالى افترى على الله كذبا أم به جنة فإن الكفار حصروا أخبار النبي صلى الله عليه وآله عن الحشر أو عن نبوته صلى الله عليه وآله في الافتراء وهو الكذب والاخبار حال الجنة على سبيل منع الخلو كما هو ظاهر مفاد كلمة أم والهمزة ولابد أن يكون المراد من الثاني غير الكذب لاقتضاء الترديد مغايرته معه وغير الصدق لاعتقادهم عدمه ولعدم دلالة قولهم أم به جنة على إرادة ذلك فلا بد أن يكون هناك واسطة يحمل عليها قولهم لأنهم عقلاء من أهل اللسان وعارفون باللغة وكون الخبر صادقا في نفس الامر لا ينافي كونه واسطة بينهما على زعمهم والحاصل أنهم اعتقدوا أن هذا الخبر خبر وليس من قسم الصدق ولا من قسم الكذب بل هو شئ ثالث وخطاهم في أنه شئ ثالث لا ينفي صحة إطلاقهم الخبر على شئ ثالث وإطلاقهم دليل على صحة الاطلاق عليه وأجيب بأن الترديد بين الافتراء وعدم الافتراء والافتراء هو الكذب عن عمد ولا عمد للمجنون فهذا ترديد بين نوعي الكذب وتوضيحه أن القصد إما داخل في مفهوم الافتراء أو هو المتبادر من الافعال المنسوبة إلى ذوي الإرادات ولذلك ذكروا في خيار المجلس المستفاد من قوله صلى الله عليه وآله البيعان بالخيار ما لم يفترقا إن التفارق على غير الاختيار لا يوجب انقطاع الخيار بل لا يبعد إجراء ذلك في نفي الافعال فيعتبر في عدم الافتراق أيضا القصد والاختيار ولو سلم عدم المدخلية للقصد في الموضوع له و لا من جهة الاستعمال فنقول ان الدليل لما دل على ما اخترناه من مذهب المشهور فنحمله هنا على إرادة القصد ولو كان مجازا جمعا بين الأدلة وربما يجاب بأنه ترديد بين الكذب وما ليس بخبر فإن الكلام الذي لا قصد معه ليس بخبر وفيه أن مدخلية القصد في كون الكلام خبرا ممنوع إلا أن يمنع كونه كلاما حينئذ وهو كما ترى واعلم أن هذه الآية على فرض تسليم دلالتها فإنما تدل على ثبوت الواسطة لا على تحقيق معنى الصدق والكذب فإن غاية ما ثبت من الآية إطلاق الكذب فيها على ما خالف الواقع والاعتقاد بزعمهم وأما انحصاره فيه فلا وإذا لم يثبت حقيقة الكذب منها فالصدق بالطريق الأولى ثم على فرض تسليم إثبات الواسطة فإنما تثبت واسطة واحدة من الوسائط وهو الخبر لا عن شعور الغير المطابق للواقع كما هو معتقدهم على ما فهمه العضدي وذكر شيخنا البهائي رحمه الله أن الثابت بها ثلث وسائط الخبر لا عن قصد وشعور و مع الشك في مطابقة الواقع ومع اعتقادها بأن يكون في زعمهم الفاسد أن الشك في الصدق لا يكون إلا
(٤١٢)