الله عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وعن يساره، وجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يردد بصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه فقال: اخرج معهم واقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه، قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة.
واعلم أن هذه الرواية دالة على أن المناظرة فيي تقرير الدين وإزالة الشبهات حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأن مذهب الحشوية في إنكار البحث والنظر باطل قطعا، والله أعلم.
المسألة الثالثة: إعلم أن مطلع هذه السورة له نظم لطيف عجيب، وذلك لأن أولئك النصارى الذين نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل لهم: إما أن تنازعوه في معرفة الإله، أو في النبوة، فإن كان النزاع في معرفة الإله وهو أنكم تثبتون له ولدا وأن محمدا لا يثبت له ولدا فالحق معه بالدلائل العقلية القطعية، فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم، والحي القيوم يستحيل عقلا أن يكون له ولد وإن كان النزاع في النبوة، فهذا أيضا باطل، لأن بالطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى فهو بعينه قائم في محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا بالمعجزة وهو حاصل ههنا، فكيف يمكن منازعته في صحة النبوة، فهذا هو وجه النظم وهو مضبوط حسن جدا فلننظر ههنا إلى بحثين.
البحث الأول: ما يتعلق بالإلهيات فنقول: إنه تعالى حي قيوم، وكل من كان حيا قيوما يمتنع أن يكون له ولد، وإنما قلنا: إنه حي قيوم، لأنه واجب الوجود لذاته، وكل ما سواه فإنه ممكن لذاته محدث حصل تكوينه وتخليقه وإيجاده على ما بينا كل ذلك في تفسير قوله تعالى: * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * وإذا كان الكل محدثا مخلوقا امتنع كون شيء منها ولدا له وإلها، كما قال: * (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) * (مريم: 93) وأيضا لما ثبت أن الإله يجب أن يكون حيا قيوما، وثبت أن عيسى ما كان حيا قيوما لأنه ولد، وكان يأكل ويشرب ويحدث، والنصارى زعموا أنه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه، فثبت أنه ما كان حيا قيوما، وذلك يقتضي القطع والجزم بأنه ما كان إلها، فهذه الكلمة وهي قوله * (الحي القيوم) * جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى في التثليث.
وأما البحث الثاني: وهو ما يتعلق بالنبوة، فقد ذكره الله تعالى ههنا في غاية الحسن ونهاية الجودة، وذلك لأنه قال: * (نزل عليك الكتاب بالحق) * (آل عمران: 3) وهذا يجري مجرى الدعوى، ثم إنه تعالى أقام الدلالة على صحة هذه الدعوى، فقال: وافقتمونا أيها اليهود والنصارى على أنه تعالى أنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، فإنما عرفتم أن التوراة والإنجيل كتابان إلهيان، لأنه تعالى قرن