قال: لما نزلت هذه الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ وناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله كلفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه، وإن له الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فلعلكم تقولون كما قال بنو إسرائيل سمعنا وعصينا قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا سمعنا وأطعنا، واشتد ذلك عليهم فمكثوا في ذلك حولا فأنزل الله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 286) فنسخت هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا به ".
واعلم أن محل البحث في هذه الآية أن قوله * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * يتناول حديث النفس، والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب، ولا يتمكن من دفعها، فالمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق، والعلماء أجابوا عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين، فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، ومنها ما لا يكون كذلك بل تكون أمورا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس، فالقسم الأول: يكون مؤاخذا به، والثاني: لا يكون مؤاخذا به، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * (البقرة: 225) وقال في آخر هذه السورة * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * (البقرة: 286) وقال: * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا) * (النور: 19) هذا هو الجواب المعتمد.
والوجه الثاني: أن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل، فهو في محل العفو وقوله * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * فالمراد منه أنه يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهرا وإما على سبيل الخفية وأما ما وجد في القلب من العزائم والإرادات ولم يتصل بالعمل فكل ذلك في محل العفو وهذا الجواب ضعيف، لأن أكثر المؤاخذات إنما تكون بأفعال القلوب ألا ترى أن اعتقاد الكفر والبدع ليس إلا من أعمال القلوب: وأعظم أنواع العقاب مرتب عليه، وأيضا فأفعال الجوارح إذا خلت عن أفعال القلوب لا يترتب عليها عقاب كأفعال النائم والساهي فثبت ضعف هذا الجواب.
والوجه الثالث في الجواب: أن الله تعالى يؤاخذه بها لكن مؤاخذتها هي العموم والغموم في الدنيا، روى الضحاك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه بغم يبتليه به في الدنيا أو حزن أو أذى، فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب عليه، وروت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه.