فالحكم كمال القوة النظرية * (وألحقني بالصالحين) * كمال القوة العملية، وقد أطنبنا في شواهد هذا المعنى من القرآن فيما تقدم من هذا الكتاب.
إذا عرفت هذا فنقول: الأمر في هذه الآية أيضا كذلك، فقوله * (كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) * إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة وقوله * (وقالوا سمعنا وأطعنا) * إشارة إلى استكمال القوة العملية الإنسانية بهذه الأعمال الفاضلة الكاملة، ومن وقف على هذه النكتة علم اشتمال القرآن على أسرار عجيبة غفل عنها الأكثرون.
والوجه الثاني: من النظم في هذه الآية أن للإنسان أياما ثلاثة: الأمس والبحث عنه يسمى بمعرفة المبدأ واليوم الحاضر، والبحث عنه يسمى بعلم الوسط، والغد والبحث عنه يسمى بعلم المعاد والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب الثلاثة قال في آخر سورة هود * (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله) * (هود: 123) وذلك إشارة إلى معرفة المبدأ ولما كانت الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة، لا جرم ذكرها في هذه الآية، وقوله * (ولله غيب السماوات والأرض) * إشارة إلى كمال العلم، وقوله * (وإليه يرجع الأمر كله) * إشارة إلى كمال القدرة، فهذا هو الإشارة إلى علم المبدأ، وأما علم الوسط وهو علم ما يجب اليوم أن يشتغل به، فله أيضا مرتبتان: البداية والنهاية أما البداية فالاشتغال بالعبودية، وأما النهاية فقطع النظر عن الأسباب، وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب، وذلك هو المسمى بالتوكل، فذكر هذين المقامين، فقال: * (فاعبده وتوكل عليه) * (هود: 123) وأما علم المعاد فهو قوله * (وما ربك بغافل عما يعملون) * (الأنعام: 132) أي فيومك غدا سيصل فيه نتائج أعمالك إليك، فقد اشتملت هذه الآية على كمال ما يبحث عنه في هذه المراتب الثلاثة، ونظيرها أيضا قوله سبحانه وتعالى: * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) * (الصافات: 180) وهو إشارة إلى علم المبدأ، ثم قال: * (وسلام على المرسلين) * (الصافات: 181) وهو إشارة إلى علم الوسط، ثم قال: * (والحمد لله رب العالمين) * (الصافات: 182) وهو إشارة إلى علم المعاد على ما قال في صفة أهل الجنة * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * (يونس: 100).
إذا عرفت هذا فنقول: تعريف هذه المراتب الثلاثة مذكور في آخر سورة البقرة، فقوله * (آمن الرسول) * إلى قوله * (لا نفرق بين أحد من رسله) * إشارة إلى معرفة المبدأ، وقوله * (وقالوا سمعنا وأطعنا) * إشارة إلى علم الوسط، وهو معرفة الأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عالما مشتغلا بها، ما دام يكون في هذه الحياة الدنيا، وقوله * (غفرانك ربنا وإليك المصير) * إشارة إلى علم المعاد، والوقوف على هذه الأسرار ينور القلب ويجذبه من ضيق عالم الأجسام إلى فسحة عالم