والجواب عنه: أنه تعالى وإن ألزمهم هذه الأشياء لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام والتزموه، فصح من هذا الوجه إضافة العهد إليهم.
القول الثاني: أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلف ابتداء من عند نفسه. واعلم أن هذا العهد إما أن يكون بين العبد وبين الله، أو بينه وبين رسول الله، أو بينه وبين سار الناس أما الذي بينه وبين الله فهو ما يلزمه بالنذور والإيمان، وأما الذي بينه وبين رسول الله فهو الذي عاهد الرسول عليه عند البيعة من القيام بالنصرة والمظاهرة والمجاهدة وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وأما الذي بينه وبين سائر الناس فقد يكون ذلك من الواجبات مثل ما يلزمه في عقود المعاوضات من التسليم والتسلم، وكذا الشرائط التي يلتزمها في السلم والرهن، وقد يكون ذلك من المندوبات مثل الوفاء بالمواعيد في بذل المال والإخلاص في المناصرة، فقوله تعالى: * (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) * يتناول كل هذه الأقسام فلا معنى لقصر الآية على بعض هذه الأقسام دون البعض، وهذا الذي قلناه هو الذي عبر المفسرون فقالوا: هم الذين إذا واعدوا أنجزوا وإذا حلفوا ونذروا وفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أدوا، ومنهم من حمله على قوله تعالى: * (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) * (التوبة: 75) الآية.
الأمر الخامس: من الأمور المعتبرة في تحقق ماهية البر قوله تعالى: * (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس) * (البقرة: 177) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في نصب الصابرين أقوال الأول: قال الكسائي هو معطوف على * (ذوي القربى) * كأنه قال: وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين: قال النحويون: إن تقدير الآية يصير هكذا: ولكن البر من آمن بالله وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين، فعلى هذا قوله: * (والصابرين) * من صلة من قوله: * (والموفون) * متقدم على قوله: * (والصابرين) * فهو عطف على * (من) * فحينئذ قد عطفت على الموصول قبل صلته شيئا، وهذا غير جائز لأن الموصول مع الصلة بمنزلة اسم واحد، ومحال أن يوصف الاسم أو يؤكد أو يعطف عليه إلا بعد تمامه وانقضائه بجميع أجزائه، أما إن جعلت قوله: * (والموفون) * رفعا على المدح، وقد عرفت أن هذا الفصل غير جائز، بل هذا أشنع لأن المدح جملة فإذا لم يجز الفصل بالمفرد فلأن لا يجوز بالجملة كان ذلك أولى.
فإن قيل: أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة كقول القائل: إن زيدا فافهم ما أقول