في القرآن قالوا: الذي قاله المعتزلة من الآيات الكثيرة الدالة على أنه لا منع من الإيمان ومن الطاعة فقد صدقوا فيه، والذي قاله الجبرية: من أن العلم بعدم الإيمان مانع منه فقد صدقوا فيه، فدل على أن القرآن ورد على ضد العقل وعلى خلافه، وذلك من أعظم المطاعن وأقوى القوادح فيه، ثم من سلم من هؤلاء أن هذا القرآن هو القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم توسل به إلى الطعن فيه، وقال قوم من الرافضة: إن هذا الذي عندنا ليس هو القرآن الذي جاء به محمد بل غير وبدل. والدليل عليه اشتماله على هذه المناقضات التي ظهرت بسبب هذه المناظرة الدائرة بين أهل الجبر وأهل القدر. ومنها أن المقلدة الطاعنين في النظر والاستدلال احتجوا بهذه المناظرة وقالوا: لو جوزنا التمسك بالدلائل العقلية لزم القدح في التكليف والنبوة بسبب هذه المناظرة، فإن كلام أهل الجبر في نهاية القوة في إثبات الجبر، وكلام أهل القدر في بيان أنه متى ثبت الجبر بطل التكليف بالكلية في نهاية القوة، فيتولد من مجموع الكلامين أعظم شبهة في القدح والتكليف والنبوة، فثبت أن الرجوع إلى العقليات يورث الكفر والضلال، وعند هذا قيل من تعمق في الكلام تزندق. ومنها أن هشام بن الحكم زعم أنه سبحانه لا يعلم الأشياء قبل وقوعها وجوز البداء على الله تعالى وقال: أن قوله: * (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * إنما وقع على سبيل الاستدلال بالأمارة، ويجوز له أن يظهر خلاف ما ذكره، وإنما قال بهذا المذهب فرارا من تلك الإشكالات المتقدمة. واعلم أن جملة الوجوه التي رويناها عن المعتزلة كلمات لا تعلق لها بالكشف عن وجه الجواب. بل هي جارية مجرى التشنيعات. فأما الجوابان اللذان عليهما اعتماد القوم ففي نهاية الضعف. أما قول أبي علي وأبي هشام والقاضي: خطأ قول من يقول إنه يدل، وخطأ قول من يقول: إنه لا يدل: إن كان المراد منه الحكم بفساد القسمين كان ذلك حكما بفساد النفي والإثبات وذلك لا يرتضيه العقل وإن كان معناه أن أحدهما حق لكن لا أعرف أن الحق هو أنه يدل أو لا يدل كفي في دفعه تقرير وجه الاستدلال، فإنا لما بينا أن العلم بالعدم لا يحصل إلا مع العدم، فلو حصل الوجود معه لكان قد اجتمع العدم والوجود معا ولا يتمكن العقل من تقرير كلام أوضح من هذا وأقل مقدمات فيه. وأما قول الكعبي ففي نهاية الضعف، لأنا وإن كنا لا ندري أن الله تعالى كان في الأزل عالما بوجود الإيمان أو بعدمه لكنا نعلم أن العلم بأحد هذين الأمرين كان حاصلا، وهو الآن أيضا حاضر، فلو حصل مع العلم بأحد النقيضين ذلك النقيض الآخر لزم اجتماع النقيضين، ولو قيل بأن ذلك العلم لا يبقى كان ذلك اعترافا بانقلاب العلم جهلا، وهذا آخر الكلام في هذا البحث. واعلم أن الكلام المعنوي هو الذي تقدم، وبقي في هذا الباب أمور أخرى إقناعية ولا بد من ذكرها وهي خمسة: أحدها: روى الخطيب في كتاب تاريخ بغداد عن معاذ بن معاذ العنبري قال: كنت جالسا عند عمرو بن عبيد فأتاه رجل فقال: يا أبا عثمان سمعت والله اليوم بالكفر، فقال: لا تعجل بالكفر، وما سمعت؟ قال: سمعت هاشما الأوقص يقول: إن * (تبت يدا أبي لهب) * (المسد: 1) وقوله: * (ذرني ومن خلقت وحيدا) * (المدثر: 11) إلى قوله: * (سأصليه سقر) * (المدثر: 26) إن هذا
(٤٦)