نظرا إلى ذاته وعينه، فوجب أن يعلمه الله تعالى من الممكنات الجائزات، إذ لو لم يعلمه كذلك لكان ذلك العلم جهلا، وهو محال، وإذا علمه الله تعالى من الممكنات الجائزات التي لا يمتنع وجودها وعدمها البتة، فلو صار بسبب العلم واجبا لزم أن يجتمع على الشيء الواحد كونه من الممكنات، وكونه ليس من الممكنات وذلك محال. وسادسها: أن الأمر بالمحال سفه وعبث، فلو جاز ورود الشرع به لجاز وروده أيضا بكل أنواع السفه، فما كان يمتنع وروده بإظهار المعجزة على يد الكاذبين ولا إنزال الأكاذيب والأباطيل، وعلى هذا التقدير لا يبقى وثوق بصحة نبوة الأنبياء ولا بصحة القرآن، بل يجوز أن يكون كله كذبا وسفها، ولما بطل ذلك علمنا أن العلم بعدم الإيمان والخبر عن عدم الإيمان لا يمنع من الإيمان. وسابعها: أنه لو جاز ورود الأمر بالمحال في هذه الصورة لجاز ورود أمر الأعمى بنقط المصاحف. والمزمن بالطيران في الهواء، وأن يقال لمن قيد يداه ورجلاه وألقي من شاهق جبل: لم لا تطير إلى فوق؟ ولما لم يجز شيء من ذلك في العقول علمنا أنه لا يجوز الأمر بالمحال، فثبت أن العلم بالعدم لا يمنع من الوجود، وثامنها: لو جاز ورود الأمر بذلك لجاز بعثة الأنبياء إلى الجمادات وإنزال الكتب عليها، وإنزال الملائكة لتبليغ التكاليف إليها حالا بعد حال، ومعلوم أن ذلك سخرية وتلاعب بالدين. وتاسعها: أن العلم بوجود الشيء لو اقتضى وجوبه لأغنى العلم عن القدرة والإرادة، فوجب أن لا يكون الله تعالى قادرا مريدا مختارا، وذلك قول الفلاسفة القائلين بالموجب. وعاشرها: الآيات الدالة على أن تكليف ما لا يطاق لم يوجد، قال الله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 286) وقال: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) وقال: * (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) * (الأعراف: 157) وأي حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال المقام الثالث الجواب على سبيل التفصيل، للمعتزلة فيه طريقان: الأول: طريقة أبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار، فإنا لما قلنا: لو وقع خلاف معلوم الله تعالى لانقلب علمه جهلا قالوا خطأ: قول من يقول: إنه ينقلب علمه جهلا، وخطأ أيضا قول من يقول: إنه لا ينقلب، ولكن يجب الإمساك عن القولين: والثاني: طريقة الكعبي واختيار أبي الحسين البصري: أن العلم تبع المعلوم، فإذا فرضت الواقع من العبد من الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل لله تعالى هو العلم بالإيمان، ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلا عن الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل هو العلم بالكفر بدلا عن الإيمان، فهذا فرض علم بدلا عن علم أخر، لا أنه تغير العلم. فهذان الجوابان هما اللذان عليهما اعتماد جمهور المعتزلة. واعلم أن هذا المبحث صار منشأ لضلالات عظيمة: فمنها أن منكري التكاليف والنبوات قالوا: قد سمعنا كلام أهل الجبر فوجدناه قويا قاطعا، وهذان الجوابان اللذان ذكرهما المعتزلة يجريان مجرى الخرافة ولا يلتفت العاقل إليهما، وسمعنا كلام المعتزلة في أن مع القول بالجبر لا يجوز التكليف ويقبح، والجواب الذي ذكره أهل الجبر ضعيف جدا فصار مجموع الكلامين كلاما قويا في نفي التكاليف، ومتى بطل ذلك بطل القول بالنبوات. ومنها أن الطاعنين
(٤٥)