والإثبات، ونذكر هذا على وجه خامس: وهو أنه تعالى عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه في قوله: * (يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) * (الفتح: 15) فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله تعالى عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله تعالى، وذلك منهي عنه. ثم ههنا أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة فمحاولة الإيمان منهم تكون قصدا إلى تبديل كلام الله، وذلك منهي عنه، وترك محاولة الإيمان يكون أيضا مخالفة لأمر الله تعالى، فيكون الذم حاصلا على الترك والفعل، فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع، وهذا هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال. ولقد كان السلف والخلف من المحققين معولين عليه في دفع أصول المعتزلة وهدم قواعدهم، ولقد قاموا وقعدوا واحتالوا على دفعه فما أتوا بشيء مقنع، وأنا أذكر أقصى ما ذكروه بعون الله تعالى وتوفيقه: قالت المعتزلة: لنا في هذه الآية مقامان: المقام الأول: بيان أنه لا يجوز أن يكون علم الله تعالى وخبر الله تعالى عن عدم الإيمان مانعا من الإيمان، والمقام الثاني: بيان الجواب العقلي على سبيل التفصيل، أما المقام الأول فقالوا: الذي يدل عليه وجوه: أحدها: أن القرآن مملوء من الآيات الدالة على أنه لا مانع لأحد من الإيمان قال: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) * (الإسراء: 94) وهو إنكار بلفظ الاستفهام ومعلوم أن رجلا لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ثم يقول ما منعك من التصرف في حوائجي كان ذلك منه مستقبحا وكذا قوله: * (وماذا عليهم لو آمنوا) * (الأعراف: 12) وقوله لإبليس: * (ما منعك أن تسجد) * (النساء: 39) وقول موسى لأخيه: * (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا) * (طه: 92) وقوله: * (فما لهم لا يؤمنون) * (الانشقاق: 20) * (فما لهم عن التذكرة معرضين) * (المدثر: 49) * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * (التوبة: 43) * (لم تحرم ما أحل الله لك) * (التحريم: 1) قال الصاحب بن عباد في فصل له في هذا الباب: كيف يأمره بالإيمان وقد منعه عنه؟ وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول أنى تصرفون؟ ويخلق فيهم الإفك ثم يقول أنى تؤفكون؟ وأنشأ فيهم الكفر ثم يقوم لم تكفرون؟ وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول * (لم تلبسون الحق بالباطل) * (آل عمران: 71) وصدهم عن السبيل ثم يقول: * (لم تصدون عن سبيل الله) * (آل عمران: 99) وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال: * (وماذا عليهم لو آمنوا) * وذهب بهم عن الرشد ثم قال: * (فأين تذهبون) * (التكوير: 26) وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال: * (فما لهم عن التذكرة معرضين) *. (المدثر: 49) وثانيها: أن الله تعالى قال: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * (السناء: 165) وقال: * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزي) * (طه: 134) فلما بين أنه ما أبقي لهم عذرا إلا وقد أزاله عنهم، فلو كان علمه بكفرهم وخبره عن كفرهم مانعا لهم عن الإيمان لكان ذلك من أعظم الأعذار وأقوى الوجوه الدافعة للعقاب عنهم فلما لم يكن كذلك علمنا أنه غير مانع. وثالثها: أنه تعالى حكى عن الكفار في سورة " حم السجدة " أنهم قالوا: قلوبنا في أكنه مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر، وإنما ذكر الله تعالى ذلك ذما لهم في هذا القول، فلو كان العلم مانعا لكانوا صادقين
(٤٣)