النورانية واللطيفة الربانية التي لأجلها صار مستعدا لإدراك حقائق الأشياء والاطلاع عليها والاشتغال بعبادة الله على ما قال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * () وأيضا الجاهل كأنه في ظلمة شديدة لا يرى شيئا البتة والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت ويسبح في بحار المعقولات فيطالع الموجود والمعدوم والواجب والممكن والمحال ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض والجوهر إلى البسيط والمركب ويبالغ في تقسيم كل منها إلى أنواعها وأنواع أنواعها وأجزائها وأجزاء أجزائها والجزء الذي به يشارك غيره والجزء الذي به يمتاز عن غيره ويعرف أثر كل شيء ومؤثره ومعلوله وعلته ولازمه وملزومه وكليه وجزئيه وواحده وكثيره حتى يصير عقله كالنسخة التي أثبت فيها جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها فأي سعادة فوق هذه الدرجة ثم إنه بعد صيرورته كذلك تصير النفوس الجاهلة عالمة فتصير تلك النفس كالشمس في عالم الأرواح وسببا للحياة الأبدية لسائر النفوس فإنها كانت كاملة ثم صارت مكملة وتصير واسطة بين الله وبين عباده ولهذا قال تعالى: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره) * (النحل: 2) والمفسرون فسروا هذا الروح بالعلم والقرآن وكما أن البدن بلا روح ميت فاسد فكذا الروح بلا علم ميت ونظيره قوله تعالى: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * (الشورى: 52) فالعلم روح الروح ونور النور ولب اللب ومن خواص هذه السعادة أنها تكون باقية آمنة عن الفناء والتغير، فإن التصورات الكلية لا يتطرق إليها الزوال والتغير وإذا كانت هذه السعادة في نهاية الجلالة في ذاتها ثم إنها باقية أبد الآبدين ودهر الداهرين كانت لا محالة أكمل السعادات وأيضا فالأنبياء صلوات الله عليهم ما بعثوا إلا للدعوة إلى الحق قال تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة) * (النحل: 125) إلى آخره، وقال: * (قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) * ث (يوسف: 108) م خذ من أول الأمر فإنه سبحانه لما قال: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * (البقرة: 30) قالت الملائكة: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * قال سبحانه: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * فأجابهم سبحانه بكونه عالما فلم يجعل سائر صفات الجلال من القدرة. والإرادة، والسمع، والبصر، والوجود، والقدم، والاستغناء عن المكان والجهة جوابا لهم وموجبا لسكوتهم وإنما جعل صفة العلم جوابا لهم وذلك يدل على أن صفات الجلال والكمال وإن كانت بأسرها في نهاية الشرف إلا أن صفة العلم أشرف من غيرها ثم إنه سبحانه إنما أظهر فضل آدم عليه السلام بالعلم وذلك يدل أيضا على أن العلم أشرف من غيره ثم إنه سبحانه لما أظهر علمه جعله مسجود الملائكة وخليفة العالم السفلى وذلك يدل على أن تلك المنقبة إنما استحقها آدم عليه السلام بالعلم ثم إن الملائكة افتخرت بالتسبيح والتقديس والافتخار بهما إنما يحصل لو كانا مقرونين بالعلم فإنهما إن حصلا بدون العلم كان ذلك نفاقا والنفاق أخس المراتب قال تعالى: * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) * (النساء: 145) أو تقليدا والتقليد مذموم فثبت أن تسبيحهم وتقديسهم إنما صار موجبا للافتخار ببركة العلم. ثم إن آدم عليه السلام إنما وقع عليه اسم المعصية لأنه أخطأ
(١٩٩)