في مسألة واحدة اجتهادية على ما سيأتي بيانه ولأجل هذا الخطأ القليل وقع فيما وقع فيه والشيء كلما كان الخطر فيه أكثر كان أشرف فذلك يدل على غاية جلالة العلم. ثم إنه ببركة جلالة العلم لما تاب وأناب وترك الإصرار والاستكبار وجد خلعة الاجتباء، ثم انظر إلى إبراهيم عليه السلام كيف اشتغل في أول أمره بطلب العلم على ما قال تعالى: * (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا) * (الأنعام: 76) ثم انتقل من الكواكب إلى القمر ومن القمر إلى الشمس ولم يزل ينتقل بفكره من شيء إلى شيء إلى أن وصل بالدليل الزاهر والبرهان الباهر إلى المقصود وأعرض عن الشرك فقال: * (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) * (الأنعام: 79) فلما وصل إلى هذه الدرجة مدحه الله تعالى بأشرف المدائح وعظمه على أتم الوجوه فقال تارة: * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) * (الأنعام: 75) وقال أخرى: * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء) * (الأنعام: 83) ثم إنه عليه السلام بعد الفراغ من معرفة المبدأ اشتغل بمعرفة المعاد فقال: * (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى) * (البقرة: 26) ثم لما فرغ من التعلم اشتغل بالتعليم والمحاجة تارة مع أبيه على ما قال: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر) * (مريم: 42) وتارة مع قومه فقال: * (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) * (الأنبياء: 52) وأخرى مع ملك زمانه فقال: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) * (البقرة: 258) وانظر إلى صالح وهود وشعيب كيف كان اشتغالهم في أوائل أمورهم وأواخرها بالتعلم والتعليم وإرشاد الخلق إلى النظر والتفكر في الدلائل وكذلك أحوال موسى عليه السلام مع فرعون وجنوده ووجوه دلائله معه، ثم انظر إلى حال سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم كيف من الله عليه بالعلم مرة بعد أخرى فقال: * (ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى) * (الضحى: 7 - 8) فقدم الامتنان بالعلم على الامتنان بالمال وقال أيضا: * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * (الشورى: 52) وقال: * (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) * (هود: 49) ثم إنه أول ما أوحى إليه قال: * (إقرأ باسم ربك) * (العلق: 1) ثم قال: * (وعلمك ما لم تكن تعلم) * (النساء: 113) وهو عليه الصلاة والسلام كان أبدا يقول: أرنا الأشياء كما هي. فلو لم يظهر للإنسان مما ذكرنا من الدلائل النقلية والعقلية شرف العلم لاستحال أن يظهر له شيء أصلا وأيضا فإن الله تعالى سمى العلم في كتابه بالأسماء الشريفة. فمنها: الحياة * (أو من كان ميتا فأحييناه) * (الأنعام: 122). وثانيها: الروح * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * (الشورى: 52)، وثالثها: النور * (الله نور السماوات والأرض) * (النور: 35) وأيضا قال تعالى في صفة طالوت: * (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم) * (البقرة: 247) فقدم العلم على الجسم ولا شك أن المقصود من سائر النعم سعادة البدن، فسعادة البدن أشرف من السعادة المالية فإذا كانت السعادة العلمية راجحة على السعادة الجسمانية فأولى أن تكون راجحة على السعادة المالية. وقال يوسف * (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) * (يوسف: 55) ولم يقل إني حسيب نسيب فصيح مليح، وأيضا فقد جاء في الخبر " المرء بأصغريه قلبه ولسانه " إن تكلم تكلم بلسانه، وإن قاتل قاتل بجنانه، قال الشاعر:
(٢٠٠)