الدلالة بالعقل، أما بيان أن العالم بالله يجب أن يخشاه، فذلك لأن من لم يكن عالما بالشيء استحال أن يكون خائفا منه، ثم إن العلم بالذات لا يكفي في الخوف، بل لا بد له من العلم بأمور ثلاثة. منها: العلم بالقدرة، لأن الملك عالم باطلاع رعيته على أفعاله القبيحة، لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعها. ومنها: العلم بكونه عالما، لأن السارق من مال السلطان يعلم قدرته، ولكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه. ومنها العلم بكونه حكيما. فإن المسخر عند السلطان عالم بكون السلطان قادرا على منعه عالما بقبائح أفعاله، لكنه يعلم أنه قد يرضى بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف؛ أما لو علم اطلاع السلطان على قبائح أفعاله وعلم قدرته على منعه وعلم أنه حكيم لا يرضى بشفاهته؛ صارت هذه العلوم الثلاثة موجبة لحصول الخوف في قلبه، فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا علم بكونه تعالى عالما بجميع المعلومات، قادرا على كل المقدورات، غير راض بالمنكرات والمحرمات، فثبت أن الخوف من لوازم العلم بالله، وإنما قلنا: أن الخوف سبب الفوز بالجنة، وذلك لأنه إذا سنح للعبد لذة عاجلة وكانت تلك اللذة على خلاف أمر الله، وفعل ذلك الشيء يكون مشتملا على منفعة ومضرة، فصريح العقل حاكم بترجيح الجانب الراجح على الجانب المرجوح، فإذا علم بنور الإيمان أن اللذة العاجلة حقيرة في مقابلة الألم الآجل، صار ذلك الإيمان سببا لفراره عن تلك اللذة العاجلة، وذلك هو الخشية، وإذا صار تاركا للمحظور فاعلا للواجب كان من أهل الثواب، فقد ثبت بالشواهد النقلية والعقلية أن العالم بالله خائف والخائف من أهل الجنة. وثانيها: أن ظاهر الآية يدل على أنه ليس للجنة أهل إلا العلماء، وذلك لأن كلمة إنما للحصر، فهذا يدل على أن خشية الله لا تحصل إلا للعلماء. والآية الثانية وهي قوله: * (ذلك لمن خشي ربه) * دالة على أن الجنة لأهل الخشية وكونها لأهل الخشية ينافي كونها لغيرهم، فدل مجموع الآيتين على أنه ليس للجنة أهل إلا العلماء واعلم أن هذه الآية فيها تخويف شديد، وذلك لأنه ثبت أن الخشية من الله تعالى من لوازم العلم بالله، فعند عدم الخشية يلزم عدم العلم بالله، وهذه الدقيقة تنبهك على أن العلم الذي هو سبب القرب من الله تعالى هو الذي يورث الخشية، وأن أنواع المجادلات وإن دقت وغمضت إذا خلت عن إفادة الخشية كانت من العلم المذموم. وثالثها: قرىء * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * برفعه الأول ونصب الثاني، ومعنى هذه القراءة: أنه تعالى لو جازت الخشية عليه؛ لما خشي العلماء، لأنهم هم الذين يميزون بين ما يجوز وبين ما لا يجوز. وأما الجاهل الذي لا يميز بين هذين البابين فأي مبالاة به وأي التفات إليه، ففي هذه القراءة نهاية النصب للعلماء والتعظيم. الرابع: قوله تعالى: * (وقل ربي زدني علما) * (طه: 114). وفيه أدل دليل على نفاسة العلم وعلو مرتبته وفرط محبة الله تعالى إياه، حيث أمر نبيه بالازدياد منه خاصة دون غيره. وقال قتادة: لو اكتفى أحد من العلم لاكتفى نبي الله موسى عليه السلام ولم يقل * (هل أتبعك على أن تعلمن
(١٨٧)