كلما كان الإدراك أغوص وأشد والمدرك أشرف وأكمل، والمدرك أنقى وأبقى. وجب أن تكون اللذة أشرف وأكمل. ولا شك أن محل العلم هو الروح وهو أشرف من البدن ولا شك أن الإدراك العقلي أغوص وأشرف على ما سيجيء بيانه في تفسير قوله: * (الله نور السماوات والأرض) * (النور: 35) وأما المعلوم فلا شك أنه أشرف لأنه هو الله رب العالمين وجميع مخلوقاته من الملائكة والأفلاك والعناصر والجمادات والنبات والحيوانات وجميع أحكامه وأوامره وتكاليفه وأي معلوم أشرف من ذلك فثبت أنه لا كمال ولا لذة فوق كمال العلم ولذاته ولا شقاوة ولا نقصان فوق شقاوة الجهل ونقصانه، ومما يدل على ما قلناه أنه إذا سئل الواحد منا عن مسألة علمية فإن علمها وقدر على الجواب والصواب فيها فرح بذلك وابتهج به، وأن جهلها نكس رأسه حياء من ذلك، وذلك يدل على أن اللذة الحاصلة بالعلم أكمل اللذات، والشقاء الحاصل بالجهل أكمل أنواع الشقاء، واعلم أن ههنا وجوها أخر من النصوص تدل على فضيلة العلم نسينا إيرادها قبل ذلك فلا بأس أن نذكرها ههنا. الوجه الأول: أن أول ما نزل قوله تعالى: * (إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم: الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) * (العلق: 1 - 5) فقيل فيه إنه لا بد من رعاية التناسب بين الآيات فأي مناسبة بين قوله: * (خلق الإنسان من علق) * وبين قوله: * (إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم) * فأجيب عنه بأن وجه المناسبة أنه تعالى ذكر أول حال الإنسان وهو كونه علقة. مع أنها أخس الأشياء وآخر حاله وهي صيرورته عالما وهو أجل المراتب كأنه تعالى قال كنت أنت في أول حالك في تلك الدرجة التي هي غاية الخساسة فصرت في آخر حالك في هذه الدرجة التي هي الغاية في الشرف. وهذا إنما يتم لو كان العلم أشرف المراتب إذ لو كان غيره أشرف لكان ذكر ذلك الشيء في هذا المقام أولى. الثاني: أنه قال: * (إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم) * وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة فهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى إنما استحق الوصف بالأكرمية لأنه أعطى العلم فلولا أن العلم أشرف من غيره وإلا لما كانت إفادته أشرف من إفادة غيره: الثالث: قوله سبحانه: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * وهذه الآية فيها وجوه من الدلائل على فضل العلم. أحدها: دلالتها على أمم من أهل الجنة وذلك لأن العلماء من أهل الخشية؛ ومن كان من أهل الخشية كان من أهل الجنة فالعلماء من أهل الجنة فبيان أن العلماء من أهل الخشية قوله تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28) وبيان أن أهل الخشية من أهل الجنة قوله تعالى: * (جزاءهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار) * (البينة: 8) إلى قوله تعالى: * (ذلك لمن خشي ربه) * ويدل عليه أيضا قوله تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * ويدل عليه أيضا قوله تعالى: " وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة " واعلم أنه يمكن إثبات مقدمتي هذه
(١٨٦)