الفضلى لا يعبدونه تعالى خوفا من ناره وأنها محرقة، بل لأنها دار الخذلان والحرمان ومحل أهل الكفر والعصيان، ومن سخط عليه الرحمن، ولا طمعا في جنته من حيث كونها محل المشتهيات النفسانية والملاذ الجسمانية، بل من حيث إنها محل رضوان الله وأهل كرامته وقربه ولطفه، فلو كانت النار محل أهل كرامة الله لاختاروها كما اختاروا في الدنيا محنها ومشاقها، لعلمهم بأن رضى الله فيها، ولو كانت الجنة محل من غضب الله عليه لتركوها وفروا منها كما تركوا ملاذ الدنيا لما علموا أن محبوبهم لا يرتضيها، وإذا دريت ذلك حق درايته سهل عليك الجمع بين ما ورد من عدم كون العبادة للجنة والنار، والمبالغة في طلب الجنة والاستعاذة من النار، وما ورد في بعض الروايات والدعوات من التصريح بكون العبادة لابتغاء الدار الآخرة، فإن من طلب الآخرة لقربه ووصاله لم يطلب إلا وجهه، ومن طلبها لاستلذاذه وتمتعه الجسماني لم يعبد إلا نفسه، وتحقيق هذا المقام يحتاج إلى نوع آخر من الكلام و ذكر مقدمات غير مأنوسة لأكثر الأنام، وفيما ذكرنا كفاية لمن شم روحا من رياض محبة ذي الجلال والاكرام، وعسى أن نتمم هذا المرام في بابي الحب والاخلاص بعض الاتمام، والله المرجو لكل خير وفضل وإنعام.
فذلكة: اعلم أن الايمان بالجنة والنار على ما وردتا في الآيات والاخبار من غير تأويل من ضروريات الدين، ومنكرهما أو مؤولهما بما أولت به الفلاسفة خارج من الدين، وأما كونهما مخلوقتان الآن فقد ذهب إليه جمهور المسلمين إلا شرذمة من المعتزلة، فإنهم يقولون: سيخلقان في القيامة، والآيات والأخبار المتواترة دافعة لقولهم، مزيفة لمذهبهم، والظاهر أنه لم يذهب إلى هذا القول السخيف أحد من الامامية إلا ما ينسب إلى السيد الرضي رضي الله عنه، وأما مكانهما فقد عرفت أن الاخبار تدل على أن الجنة فوق السماوات السبع، والنار في الأرض السابعة، وعليه أكثر المسلمين.
وقال شارح المقاصد: جمهور المسلمين على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافا لأبي هاشم والقاضي عبد الجبار ومن يجري مجراهما من المعتزلة، حيث زعموا أنهما إنما تخلقان يوم الجزاء، لنا وجهان: