وتباغضهم وتدابرهم. فحمل بعضهم بغض البعض الآخر، على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقا (1). وقيل: اختلاف أهل الكتاب في الدين مع نزول الكتاب الإلهي عليهم، لم يكن عن جهل منهم بحقيقة الأمر، بل كانوا عالمين بذلك. وإنما حملهم على ذلك بغيهم وظلمهم من غير عذر، وذلك كفر منهم بآيات الله المبينة لهم حق الأمر وحقيقته. لا بالله، فإنهم يعترفون به، ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب، يحاسبه سريعا في دنياه وآخرته أما في الدنيا فبالخزي وسلب سعادة الحياة عنه. وأما في الآخرة فبأليم عذاب النار، والدليل على عموم سرعة الحساب للدنيا والآخرة قوله تعالى بعد آيتين: (أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين) (2).
وإذا كان البغي قد أثمر شجرة الاختلاف. فإنه أثمر أيضا شجرة الافتراق، قال تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) (3). قال المفسرون: أي وما تفرق الناس الذين شرعت لهم الشريعة باختلافهم وتركهم الاتفاق، إلا حال كون تفرقهم آخذا أو ناشئا من بعد ما جاءهم العلم بما هو الحق ظلما أو حسدا تداولوه بينهم (4). وقال ابن كثير: أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم وقيام الحجة عليهم. وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد (5).
إن الشيطان ينشط في تربة العلم، حيث القافلة الأولى. فإن استطاع أن يدق له وتدا أو ينصب له خيمة، ضمن البغي والاختلاف والفرقة. ومن هذه الأشجار سيأكل كل قادم ملجم العقل من بني الإنسان تحت لافتات عدة تزينها سنة الآباء الأوائل، التي يدافعون عنها حتى ولو خرجت منها رائحة الفواحش.