مقولات العقل الفطرية، فلو لم نكن نملك هذه الصورة القبلية لما تكونت معرفة. كما أنا لو لم نحصل على المواد بالتجربة لما تحققت لنا معرفة أيضا. فالمعرفة توجد بتكييف العقل للموضوعات التجريبية بإطاراته وقوالبه الخاصة، أي مقولاته الفطرية، لا أن العقل هو الذي يتكيف وأن إطاراته وقوالبه هي التي تتبلور تبعا للموضوعات المدركة. فالعقل في ذلك نظير شخص يحاول أن يضع كمية من الماء في اناء ضيق لا يسعها، فيعمد إلى الماء فيقلل من كميته ليمكن وضعه فيه بدلا عن أن يوسع الاناء ليستوعب الماء كله.
وهكذا يتضح الانقلاب الفكري الذي أحدثه (كانت) في مسألة الفكر الانساني، إذ جعل الأشياء تدور حول الفكر وتتبلور طبقا لإطاراته الخاصة، بدلا عما كان يعتقده الناس من ان الفكر يدور حول الأشياء ويتكيف تبعا لها.
وعلى هذا الضوء وضع (كانت) حدا فاصلا بين (الشيء في ذاته) و (الشيء لذاتنا). فالشئ في ذاته هو الواقع الخارجي دون أي إضافة من ذاتنا اليه. وهذا الواقع المجرد عن الإضافة الذاتية لا يقبل المعرفة، لأن المعرفة ذاتية وعقلية في صورتها. والشيء لذاتنا هو المزيج المركب من الموضوع التجريبي، والصورة الفطرية القبلية التي تتحد معه في الذهن. ولهذا تكون النسبية مفروضة على كل حقيقة تمثل في إدراكاتنا للأشياء الخارجية، بمعنى ان ادراكنا يدلنا على حقيقة الشيء لذاتنا، لا على حقيقة الشيء في ذاته.
وبذلك تختلف العلوم الطبيعية عن العلوم الرياضية، فان العلوم الرياضية لما كان موضوعها موجودا في النفس بصورة فطرية لم تقم فيها اثنينية بين الشيء في ذاته والشيء لذاتنا، وعلى عكس ذلك العلوم الطبيعية، فإنها تتناول الظواهر الخارجية التي تقع عليها التجربة. وهي ظواهر موجودة بصورة مستقلة عنا ونحن نعلمها في قوالبنا الفطرية، فلا غرو أن يفصل بين الشيء في ذاته والشيء لذاتنا.
الثالثة الميتافيزيقا ويرى (كانت) استحالة التوصل فيها إلى معرفة عن طريق العقل النظري، وان أي محاولة لإقامة معرفة ميتافيزيقية على أساس فلسفي هي محاولة فاشلة ليست لها قيمة، وذلك انه لا يصح في القضايا