حتى دخل على امرأتيه فودعهم، ثم خرج من عندهم يريد إلى أمه ليودعها، فإذا بها قد استقبلته ومعها درج فيه حنوط وطيب وكافور، فلما نظر إليها دنا فقبل بين عينيها، ثم بكى إليها وعزاها وصبرها، فقالت له: يا بني! اجمع عليك ثيابك، واشدد عليك إزارك وأعقد تكتك إلى ورائك، ولا تجمع على نفسك أمرين، الظفر بدمك والجدل بجزعك، ولكن عليك بالصبر، فإنه من شيم آبائك. قال: فتبسم عبد الله بن الزبير ثم قال: الحمد لله الذي وهب لك يا أماه بجميل الصبر ما أرى أنهم يقتلونني فيما قد شحنت صدورهم خنقا وتركت جموعهم فرقا (1).
قال: ثم ودعها وأقبل إلى المسجد الحرام، فإذا القوم قد استقبلوه بالسيوف والرماح، فحمل عليهم حملة فكشفهم، ثم دخل المسجد الحرام واجتمع (2) إليه أصحابه، ودخل (2) إليه أصحاب الحجاج من جميع أبواب المسجد، فلم يزل يقاتلهم حتى بقي في سبعين رجلا، ثم قاتلهم حتى بقي في ثلاثين رجلا (3). قال: وتكاثروا عليه من كل جانب، واعتوره رجلان من أهل الشام، فضربه أحدهما بسيفه فأوهنه، وضربه الآخر على رأسه فسقط، وتكاثرت عليه السيوف حتى قتل (4). قال: وكبر أصحاب الحجاج بقتله، فسمعت أمه التكبير فقالت: قتل والله ابني عبد الله! فإنا لله وإنا إليه راجعون، فقد أحسن ابني حين لم يعط بيده ولم يبع القوم دينه. قال: وحمل أصحاب الحجاج على من بقي من أصحاب عبد الله بن الزبير، فقتلوا عن آخرهم في المسجد الحرام، ثم جزوا بأرجلهم حتى أخرجوا عن المسجد سحبا، وأمر بعبد الله بن الزبير فصلب منكسا وأمر برأسه فحمل إلى عبد الملك بن مروان، وكتب إليه يخبره بالخبر على جهته.
قال أهل العلم: فكان مقتل عبد الله بن الزبير يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى (5) سنة ثلاث و [سبعين، وله نيف و -] سبعون سنة (6) -