من قبل عبد الملك بن مروان يقال له مطهر بن يحيى العتكي، فلما نظر إليه هؤلاء القوم أمر بباب المدينة فأغلق، ولقي من ناحيتهم فناداهم (1) أصحاب محمد: يا أهل مدين! لا تخافوا فإنكم آمنون، إنما نريد منكم أن تقيموا لنا السوق حتى نتسوق منه ما نريد، نحن أصحاب محمد بن علي بن أبي طالب، لسنا نرزأ أحدا شيئا ولا نأكل شيئا إلا بثمن، قال: ففتح (2) أهل مدين باب مدينتهم وأخرجوا لهم الأنزال.
فقال محمد ابن الحنفية لأصحابه: أيها الناس! إني قد وطئت بكم آثار الأولين، وأريتكم ما فيه معتبر وتبصرة لكم إن كنتم تعقلون، ألم تروا ديار عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين، كانوا عمار الأرض من قبلكم وسكانها، أعطوا من الأموال ما لم تعطوا، وأوتوا من الأعمار ما لم تؤتوا، فأصبحوا في القبور رميما كأنهم لم يعمروا الأرض طرفة عين، ولم تكن لهم الدنيا بدار.
قال: ثم سار محمد ابن الحنفية وأصحابه حتى نزلوا مدينة أيلة (3)، فجعلوا يصومون النهار ويقومون الليل، وجعل كل من مر بهم وقدم إلى دمشق يحدث عنهم ويقول: ما رأينا قوما قط خيرا من هؤلاء القوم الذين قد دخلوا أرض الشام، إنما هم صيام وقيام، لا يظلمون أحدا ولا يؤذون مسلما ولا معاهدا، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. قال: وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فندم على كتابه إلى ابن الحنفية وسؤاله إياه أن يقدم إلى بلاد الشام لما شاع في الناس من خبره وحسن الثناء عليه.
ذكر كتاب عبد الملك بن مروان إلى محمد ابن الحنفية من دمشق وجوابه إياه أما بعد، فإنك قدمت إلى بلادنا بإذن منا، وقد رأيت أن لا يكون في سلطاني رجل لم يبايعني، فإن أنت بايعتني فهذه مراكب قد أقبلت من أرض مصر إلى أيلة، فيها من الأطعمة والأمتعة والأشياء كذا وكذا، فخذ ما فيها لك، ومع ذلك ألف ألف درهم أعجل لك منها مائتي ألف درهم، وتؤخرني بقيتها إلى أن أفرغ من أمر ابن الزبير ويجتمع الناس إلى إمام واحد، وإن أنت أبيت أن تبايع فانصرف إلى بلد لا سلطان