ورابطة الدم وانسكاب الحيرة في الكوفة، يستلزم أن تتحول المزايا الأدبية من الحيرة إلى الكوفة، كما أنها ولا شك تحولت على مثل هذا من الكوفة إلى النجف، فتكون الحيرة قد انسكبت في الكوفة والكوفة قد انسكبت في النجف، وعليه فإن خد العذراء الذي من أساريره اليوم مدينة النجف، وفي جنوبها على عشرة أميال الحيرة، وفي شرقيها على خمسة أميال الكوفة، كان ولا يزال محطة الأدب العالي للعروبة.
كانت مدرسة الكوفة على عهد المتنبي عربية محضة، تعرف ذلك جيدا من كتاب ابن النديم (الفهرست) فقد كان ابن النديم معاصرا للمتنبي (1) وتأخر عنه قليلا، وأن كتابه هذا خير دليل على لون الحركة الفكرية في الكوفة أيام المتنبي، تجده يخبرك عن الأقلام العربية وآثارها في الكوفة (2).
في هذه المدرسة العربية تثقف المتنبي ثقافة عربية بحتة، دخل وهو صبي كتاتيب الأشراف، وبعد أن تخرج منها انخرط في صفوف الجامعة الأدبية في الكوفة، وهي تلك الحلقات والمجالس العلمية الأدبية التي كانت تنعقد في مسجد الكوفة وفي الضاحية، وقرأ على أئمة الأدب العربي، وتوفر بالاطلاع على أخبار العرب ومنازلهم ومياههم، أما مبلغه في اللغة فتشهد له أولا المجموعة الغالية التي اشتمل عليها ديوانه، وثانيا ملحه ونوادره المروية في مجالس علماء اللغة، ومنها شهادة أبي علي (3) عندما استجوبه عن الجموع على وزن فعلى.
وأما خبرته بمنازل العرب ومياههم، فتشهد له قصيدته المقصورة، فقد اشتملت تلك القصيدة على كثير من المنازل والمياه التي سلكها عند رحلته من مصر، وأن الطريق التي سلكها وذكرها في مقصورته طريق غير مسلوكة لا يتغلغل فيها وينفذ منها إلا الخريت.