ومثاله تحريم شتم الوالدين وضربهما من دلالة قوله تعالى: * (ولا تقل لهما أف) * (17) الاسراء: 23) فإن الحكم المفهوم من اللفظ في محل في محل السكوت موافق للحكم المفهوم في محل النطق.
وكذلك دلالة قوله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) * (4) النساء: 10) على تحريم إتلاف أموالهم، وكدلالة قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (99) الزلزلة: 7 - 8) على المقابلة فيما زاد على ذلك وكدلالة قوله تعالى: * (ومنهم من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) * (3) آل عمران: 75) على تأدية ما دون القنطار، وعدم تأدية ما فوق الدينار، إلى غير ذلك من النظائر.
والدلالة في جميع هذه الأقسام لا تخرج من قبيل التنبيه بالأدنى على الاعلى، وبالأعلى على الأدنى، ويكون الحكم في محل السكوت أولى منه في محل النطق، وإنما يكون كذلك إن لو عرف المقصود من الحكم في محل النطق من سياق الكلام وعرف أنه أشد مناسبة واقتضاء للحكم في محل السكوت من اقتضائه له في محل النطق، وذلك كما عرفنا من سياق الآية المحرمة للتأفيف أن المقصود إنما هو كف الأذى عن الوالدين، وأن الأذى في الشتم والضرب أشد من التأفيف، فكان بالتحريم أولى. وإلا فلو قطعنا النظر عن ذلك، لما لزم من تحريم التأفيف تحريم الضرب العنيف، ولهذا فإنه ينتظم من الملك أن يأمر الجلاد بقتل والده إذا استيقن منازعته له في ملكه، وينهاه عن التأفيف، حيث كان المقصود من الامر بالقتل إنما هو دفع محذور المنازعة في الملك، وإن كان القتل أشد في دفعه من التأفيف، ولذلك لم يلزم من إباحة أعلى المحذورين إباحة أدناهما، ولا من تحريم أدناهما تحريم أعلاهما.
وهذا مما اتفق أهل العلم على صحة الاحتجاج به إلا ما نقل عن داود الظاهري أنه قال إنه ليس بحجة، ودليل كونه حجة أنه إذا قال السيد لعبده، لا تعط زيدا حبة، ولا تقل له أف، ولا تظلمه بذرة، ولا تعبس في وجهه فإنه يتبادر إلى الفهم من ذلك امتناع إعطاء ما فوق الحبة، وامتناع الشتم والضرب، وامتناع الظلم بالدينار