راسخا في الفن، وخبرة تامة في طرق الاستدلال وفهم الأخبار وتطبيق الأحكام على القواعد وتفريع الفروع على الأصول وأين ذلك من التقليد؟
ألا ترى أن المهرة في الفن لا يتجرون على مخالفة المشهور إلا مع باعث قوي ودليل ظاهر يصرفهم عنه؟! ولا زالوا يحرصون على موافقة المشهور وتحصيل دليل يوافقه ويأخذون به ولو كان الدال على غيره أقوى في نفسه، وذلك لأن الاعتضاد بالشهرة يجعل المرجوح أقوى من الراجح الدال على خلافه، ولا يعد ذلك تقليدا للأكثر وأخذا بقول الجماعة ولا حكما بحجية الشهرة، وذلك أمر ظاهر لا مرية فيه، بل ذلك طريقة جارية في سائر الفنون، فإن مخالفة الأئمة في كل صناعة مما لا يقع من أرباب الخبرة والمهارة إلا مع باعث قوي وحجة واضحة تقودهم إليها، والظاهر أن ذلك هو المنشأ في وهم الحمصي، وهو من المقاربين لعصر الشيخ (رحمه الله)، ومقصوده ممن ذكره هو من ذكرناهم من تلامذته وتلامذة تلامذته - مثلا - إلى أن نشأ الفاضل ابن إدريس وبنى على مخالفة الشيخ (رحمه الله) والمناقشة معه في الأدلة. فظهر أن ما ذكر من كون الشهرة المتأخرة عن الشيخ (رحمه الله) ناشئة عن تقليده في كمال الوهن والقصور.
ولو سلم ذلك في الجملة فغاية الأمر أن يتم بالنسبة إلى الشهرة الحاصلة ما بين زماني الشيخ وابن إدريس، بل الظاهر أن الحمصي لم يدع زيادة عليه، إذ لا مجال لادعائه، فإن عدم متابعة الحلي ومن تأخر عنه للشيخ (رحمه الله) من الأمور الواضحة لمن له أدنى خبرة.
فغاية الأمر أن لا يعتمد على تلك الشهرة المخصوصة فلو سلم وجود شهرة كذلك يتم الإشكال بالنسبة إليها ومعظم الشهرات الحاصلة عندنا غير مأخوذة من خصوص فتاوى تلك الجماعة.
غاية الأمر أن ينضم في بعض المقامات فتاواهم إلى فتاوى غيرهم ممن تقدمهم أو تأخر عنهم ويلحظ الشهرة من اتفاق الجميع، ولا يجري فيه الإشكال المذكور بوجه، وذلك أمر واضح غني عن البيان.
* * *