إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد وهكذا قوله تعالى " يغشى الناس " أي يتغشاهم ويعميهم ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه " يغشى الناس ". وقوله تعالى " هذا عذاب اليم " أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا كقوله عز وجل " يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون " أو يقول بعضهم لبعض ذلك وقوله سبحانه وتعالى " ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون " أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم كقوله جلت عظمته " ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " وكذا قوله جل وعلا " وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال " وهكذا قال جل وعلا ههنا " أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين * ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون " يقول كيف لهم بالتذكر وقد أرسلنا إليهم رسولا بين الرسالة والنذارة ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه بل كذبوه وقالوا معلم مجنون وهذا كقوله جلت عظمته " يوم يتذكر الانسان وأنى له الذكرى " الآية وكقوله عز وجل " ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب * وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد " إلى آخر السورة وقوله تعالى " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " يحتمل معنين " أحدهما " أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب كقوله تعالى " ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون " وكقوله جلت عظمته " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " " والثاني " أن يكون المراد إنا مؤخروا العذاب عنكم قليلا بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم كقوله تعالى " إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين " ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه عليهم ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه قال الله تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا " لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها " وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم وقال قتادة إنكم عائدون إلى عذاب الله وقوله عز وجل " يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون " فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وعن أبي بن كعب رضي الله عنه وهو محتمل والظاهر أن ذلك يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضا قال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة وهذا إسناد صحيح عنه وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه والله أعلم * ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم (17) أن أدوا إلى عباد الله إني لكم رسول أمين (18) وأن لا تعلوا على الله إني أتاكم بسلطان مبين (19) وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون (20) وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون (21) فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون (22) فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون (23) واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون (24) كم تركوا من جنات وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كانوا فيها فاكهين (27) كذلك
(١٥١)