والمعنيان متقاربان وإن اختلف التقديران هذا ما يتعلق باللغة، وأما المعنى فليس مراد الله ههنا ما يتعلق باللغة بل كأنه قيل لمن أبيح له الأكل على الوصف المذكور احذر أن تتعداه إلى ما يدعوك إليه الشيطان وزجر المكلف بهذا الكلام عن تخطي الحلال إلى الشبه كما زجره عن تخطيه إلى الحرام لأن الشيطان إنما يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة فيزين بذلك ما لا يحل له فزجر الله تعالى عن ذلك، ثم بين العلة في هذا التحذير، وهو كونه عدوا مبينا أي متظاهر بالعداوة، وذلك لأن الشيطان التزم أمورا سبعة في العداوة أربعة منها في قوله تعالى: * (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * (النساء: 119) وثلاثة منها في قوله تعالى: * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) * (الأعراف: 16 - 17) فلما التزم الشيطان هذه الأمور كان عدوا متظاهرا بالعداوة فلهذا وصفه الله تعالى بذلك.
وأما قوله تعالى: * (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * فهذا كالتفصيل لجملة عداوته، وهو مشتمل على أمور ثلاثة أولها: السوء، وهو متناول جميع المعاصي سواء كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح أو من أفعال القلوب وثانيها: الفحشاء وهي نوع من السوء، لأنها أقبح أنواعه، وهو الذي يستعظم ويستفحش من المعاصي وثالثها: * (أن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * وكأنه أقبح أنواع الفحشاء، لأنه وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر، فصارت هذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى: * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) * فيدخل في الآية أن الشيطان يدعو إلى الصغائر والكبائر والكفر والجهل بالله، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن أمر الشيطان ووسوسته عبارة عن هذه الخواطر التي نجدها من أنفسنا، وقد اختلفت الناس في هذه الخواطر من وجوه أحدها: اختلفوا في ماهياتها فقال بعضهم إنها حروف وأصوات خفية، وقال الفلاسفة: إنها تصورات الحروف والأصوات وتخيلاتها على مثال الصور المنطبعة في المرايا، فإن تلك الصور تشبه تلك الأشياء من بعض الوجوه، وإن لم تكن مشابهة لها في كل الوجوه.
ولقائل أن يقول: صور هذه الحروف وتخيلاتها هل تشبه هذه الحروف في كونها حروفا أولا تشبهها؟ فإن كان الأول فصور الحروف حروف، فعاد القول إلى أن هذه الخواطر أصوات وحروف خفية، وإن كان الثاني لم تكن تصورات هذه الحروف حروفا، لكني أجد من نفسي هذه الحروف والأصوات مترتبة منتظمة على حسب انتظامها في الخارج، والعربي لا يتكلم في