الوجه الرابع: في التأويل أن يكون * (في) * بمعنى الباء، وحروف الجر يقام بعضها مقام البعض، وتقديره هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام والملائكة، والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة.
الوجه الخامس: أن المقصود من الآية تصوير عظمة يوم القيامة وهولها وشدتها، وذلك لأن جميع المذنبين إذا حضروا للقضاء والخصومة، وكان القاضي في تلك الخصومة أعظم السلاطين قهرا وأكبرهم هيبة، فهؤلاء المذنبون لا وقت عليهم أشد من وقت حضوره لفصل تلك الخصومة، فيكون الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع، ونظيره قوله تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات يمينه) * (الزمر: 67) من غير تصوير قبضة وطي ويمين، وإنما هو تصوير لعظمة شأنه لتمثيل الخفي بالجلي، فكذا ههنا والله أعلم.
الوجه السادس: وهو أوضح عندي من كل ما سلف: أنا ذكرنا أن قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) * (البقرة: 208) إنما نزلت في حق اليهود، وعلى هذا التقدير فقوله: * (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم) * (البقرة: 209) يكون خطابا مع اليهود، وحينئذ يكون قوله تعالى: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) * (البقرة: 210) حكاية عن اليهود، والمعنى: أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا: * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) * (البقرة: 55) وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود ولم يمنع إجراء الآية على ظاهرها، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه، وكانوا يجوزون على الله المجئ والذهاب، وكانوا يقولون: إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمان محمد عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا التقدير يكون هذا الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه، فلا يحتاج حينئذ إلى التأويل، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز، وبالجملة فالآية تدل على أن قوما ينتظرون أن يأتيهم الله، وليس في الآية دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أو مبطلون، وعلى هذا التقدير يسقط الإشكال.
فإن قيل: فعلى هذا التأويل كيف يتعلق به قوله تعالى: * (وإلى الله ترجع الأمور) *.
قلنا: الوجه فيه أنه تعالى لما حكى عنادهم وتوقفهم في قبول الدين على هذا الشرط الفاسد، فذكر بعده ما يجري مجرى التهديد فقال: * (وإلى الله ترجع الأمور) * وهذا الوجه أظهر عندي من كل ما سبق، والله أعلم بحقيقة كلامه.