الوجه الأول: وهو مذهب السلف الصالح أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أن المجئ والذهاب على الله تعالى محال، علمنا قطعا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية هو المجئ والذهاب، وأن مراده بعد ذلك شئ آخر فإن عينا ذلك المراد لم نأمن الخطأ، فالأولى السكوت عن التأويل، وتفويض معنى الآية على سبيل التفصيل إلى الله تعالى، وهذا هو المراد بما روي عن ابن عباس أنه قال: نزل القرآن على أربعة أوجه: وجه لا يعرفه أحد لجهالته، ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه ووجه نعرفه من قبل العربية فقط، ووجه لا يعلمه إلا الله وهذا القول قد استقصينا القول فيه في تفسير قوله تعالى: * (ألم) *.
الوجه الثالث: وهو قول جمهور المتكلمين: أنه لا بد من التأويل على سبيل الفصيل ثم ذكروا فيه وجوها الأول: المراد * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) * أي آيات الله فجعل مجئ الآيات مجيئا له على التفخيم لشأن الآيات، كما يقال: جاء الملك إذا جاء جيش عظيم من جهته، والذي يدل على صحة هذا التأويل أنه تعالى قال في الآية المتقدمة * (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم) * (البقرة: 209) فذكر ذلك في معرض الزجر والتهديد، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) * ومعلوم أن التقدير أن يصح المجئ على الله لم يكن مجرد حضوره سببا للتهديد والزجر، لأنه عند الحضور كما يزجر الكفار ويعاقبهم، فهو يثيب المؤمنين ويخصهم بالتقريب، فثبت أن مجرد الحضور لا يكون سببا للتهديد والوعيد، فلما كان المقصود من الآية إنما هو الوعيد والتهديد، وجب أن يضمر في الآية مجئ الهيبة والقهر والتهديد، ومتى أضمرنا ذلك زالت الشبهة بالكلية، وهذا تأويل حسن موافق لنظم الآية.
والوجه الثاني: في التأويل أن يكون المراد * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) * أي أمر الله، ومدار الكلام في هذا الباب أنه تعالى إذا ذكر فعلا وأضافه إلى شئ، فإن كان ذلك محالا فالواجب صرفه إلى التأويل، كما قاله العلماء في قوله: * (الذين يحارون الله) * والمراد يحاربون أولياءه، وقال: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) والمراد: واسأل أهل القرية، فكذا قوله: * (يأتيهم الله) * المراد به يأتيهم أمر الله، وقوله: * (وجاء ربك) * (الفجر: 22) المراد: جاء أمر ربك، وليس فيه إلا حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو مجاز مشهور، يقال: ضرب الأمير فلانا، وصلبه، وأعطاه، والمراد أنه أمر بذلك، لا أنه تولى ذلك العمل بنفسه، ثم الذي يؤكد القول بصحة هذا التأويل وجهان الأول: أن قوله ههنا: * (يأتيهم الله) * وقوله: * (وجاء ربك) * إخبار عن حال القيامة، ثم ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل فقال: * (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك) * (النحل: 33) فصار هذا الحكم مفسرا