وفيه أسئلة. الأول: كيف يجوز وصف الله تعالى بأنه يستهزئ وقد ثبت أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس، وهو على الله محال، ولأنه لا ينفك عن الجهل، لقوله: * (قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * (البقرة: 67) والجهل على الله محال والجواب: ذكروا في التأويل خمسة أوجه: أحدها: أن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء، لأن جزء الشيء يسمى باسم ذلك الشيء قال تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (البقرة: 194) * (يخادعون الله وهو خادعهم) * (النساء: 144) * (ومكروا ومكر الله) * (آل عمران: 54) وقال عليه السلام: " اللهم إن فلانا هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فاهجه، اللهم والعنه عدد ما هجاني " أي أجزه جزاء هجائه، وقال عليه السلام: " تكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا " وثانيها: أن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم. وثالثها: أن من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة فذكر الاستهزاء، والمراد حصول الهوان لهم تعبيرا بالسبب عن المسبب. ورابعها: إن استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أحكامه في الدنيا ما لهم عند الله خلافها في الآخرة، كما أنهم أظهروا للنبي والمؤمنين أمرا مع أن الحاصل منهم في السر خلافه، وهذا التأويل ضعيف، لأنه تعالى لما أظهر لهم أحكام الدنيا فقد أظهر الأدلة الواضحة بما يعاملون به في الدار الآخرة من سوء المنقلب والعقاب العظيم، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا. وخامسها: أن الله تعالى يعاملهم معاملة المستهزئ في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه، وأما في الآخرة فقال ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار فتح الله من الجنة بابا على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحا أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة، وأهل الجنة ينظرون إليهم، فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب، فذاك قوله تعالى: * (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) * إلى قوله: * (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) * (المطففين: 34) فهذا هو الاستهزاء بهم. السؤال الثاني: كيف ابتدأ قوله: * (الله يستهزئ بهم) * ولم يعطف على الكلام الذي قبله؟ الجواب: هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة. وفيه أن الله تعالى هو الذي يستهزئ بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم في مقابلته كالعدم، وفيه أيضا أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله.
السؤال الثالث: هل قيل: إن الله مستهزئ بهم ليكون مطابقا لقوله: * (إنما نحن مستهزئون) * الجواب. لأن " يستهزئ " يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتا بعد وقت، وهذا كانت نكايات الله فيهم: * (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) * (التوبة: 126) وأيضا فما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار واستشعار حذر من أن تنزل عليهم آية * (يحذر