فمن وجوه: أحدها: أنه تعالى لو خلق الضلال في العبد ثم كلفه بالإيمان لكان قد كلفه بالجمع بين الضدين وهو سفه وظلم، وقال تعالى: * (وما ربك بظلام للعبيد) * (فصلت: 46) وقال: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 286) وقال: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) وثانيها: لو كان تعالى خالقا للجهل وملبسا على المكلفين لما كان مبينا لما كلف العبد به، وقد أجمعت الأمة على كونه تعالى مبينا، وثالثها: أنه تعالى لو خلق فيهم الضلال وصدهم عن الإيمان لم يكن لإنزال الكتب عليهم وبعثة الرسل إليهم فائدة لأن الشيء الذي لا يكون ممكن الحصول كان السعي في تحصيله عبثا وسفها. ورابعها: أنه على مضادة كبيرة من الآيات نحو قوله: * (فما لهم لا يؤمنون) * (الانشقاق: 20) * (فما لهم عن التذكرة معرضين) * (المدثر: 49)، * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) * (الإسراء: 94) فبين أنه لا مانع لهم من الإيمان البتة. وإنما امتنعوا لأجل إنكارهم بعثة الرسل من البشر وقال: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم) * (الكهف: 55) وقال: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) * (لبقرة: 28) وقال: * (أنى تصرفون) * وقال: * (أنى تؤفكون) * فلو كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين وصرفهم عن الإيمان لكانت هذه الآيات باطلة. وخامسها: أنه تعالى ذم إبليس وحزبه ومن سلك سبيله في إضلال الناس عن الدين وصرفهم عن الحق وأمر عباده ورسوله بالاستعاذة منهم بقوله تعالى: * (قل أعوذ برب الناس) * إلى قوله: * (من شر الوسواس) * و * (قل أعوذ برب الفلق) *، * (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) * (المؤمنين: 97)، * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) * (النحل: 98) فلو كان الله تعالى يضل عباده عن الدين كما تضل الشياطين لاستحق من المذمة مثل ما استحقوه ولوجب الاستعاذة منه كما وجب منهم، ولوجب أن يتخذوه عدوا من حيث أضل أكثر خلقه كما وجب اتخاذ إبليس عدوا لأجل ذلك، قالوا بل خصيصية الله تعالى في ذلك أكثر إذ تضليل إبليس سواء وجوده وعدمه فيما يرجع إلى حصول الضلال بخلاف تضليل الله فإنه هو المؤثر في الضلال فيلزم من هذا تنزيه إبليس عن جميع القبائح وإحالتها كلها على الله تعالى فيكون الذم منقطعا بالكلية عن إبليس وعائدا إلى الله سبحانه وتعالى عن قول الظالمين. وسادسها: أنه تعالى أضاف الإضلال عن الدين إلى غيره وذمهم لأجل ذلك، فقال: * (وأضل فرعون قومه وما هدى) * (طه: 79)، * (وأضلهم السامري) * (طه: 85)، * (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) * (الأنعام: 116)، * (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) * (ص: 26) وقوله تعالى حاكيا عن إبليس: * (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم) * (النساء: 119) فهؤلاء إما أن يكونوا قد أضلوا غيرهم عن الدين في الحقيقة أو يكون الله هو الذي أضلهم أو حصل الإضلال بالله وبهم على سبيل الشركة فإن كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين دون هؤلاء فهو سبحانه وتعالى قد تقول عليهم إذ قد رماهم بدأبه وعابهم بما فيه وذمهم بما لم يفعلوه، والله متعال عن ذلك وإن كان الله تعالى مشاركا لهم في ذلك فكيف يجوز أن يذمهم على فعل هو شريك فيه ومساو لهم فيه وإذا فسد الوجهان صح أن لا يضاف خلق الضلال إلى الله
(١٣٩)