والصواب من القول في ذلك عندي، أن الله عني بها الذين وصفهم بقوله: وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم... الآية، ثم قال جل ثناؤه: ما كان لأهل المدينة الذين تخلفوا عن رسول الله ولا لمن حولهم من الاعراب الذين قعدوا عن الجهاد معه أن يتخلفوا خلافه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه. وذلك أن رسول الله (ص) كان ندب في غزوته تلك كل من أطاق النهوض معه إلى الشخوص إلا من أذن له أو أمره بالمقام بعده، فلم يكن لمن قدر على الشخوص التخلف، فعدد جل ثناؤه من تخلف منهم، فأظهر نفاق من كان تخلفه منهم نفاقا وعذر من كان تخلفه لعذر، وتاب على من كان تخلفه تفريطا من غير شك ولا ارتياب في أمر الله إذ تاب من خطأ ما كان منه من الفعل. فأما التخلف عنه في حال استغنائه فلم يكن محظورا إذا لم يكن عن كراهته منه (ص) ذلك، وكذلك حكم المسلمين اليوم إزاء إمامهم، فليس بفرض على جميعهم النهوض معه إلا في حال حاجته إليهم لما لا بد للاسلام وأهله من حضورهم واجتماعهم واستنهاضه إياهم فيلزمهم حينئذ طاعته. وإذا كان ذلك معنى الآية لم تكن إحدى الآيتين اللتين ذكرنا ناسخة للأخرى، إذ لم تكن إحداهما نافية حكم الأخرى من كل وجوهه، ولا جاء خبر يوجه الحجة بأن إحداهما ناسخة للأخرى.
وقد بينا معنى المخمصة وأنها المجاعة بشواهده، وذكرنا الرواية عمن قال ذلك في موضع غير هذا، فأغني ذلك عن إعادته ههنا.
وأما النيل: فهو مصدر من قول القائل: نالني ينالني، ونلت الشئ: فهو منيل، وذلك إذا كنت تناله بيدك، وليس من التناول، وذلك أن التناول من النوال، يقال منه: نلت له أنول له من العطية. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: النيل مصدر من قول القائل: نالني بخير ينولني نوالا، وأنالني خيرا إنالة وقال: كأن النيل من الواو أبدلت ياء لخفتها وثقل الواو. وليس ذلك بمعروف في كلام العرب، بل من شأن العرب أن تصحح الواو من ذوات الواو إذا سكنت وانفتح ما قبلها، كقولهم: القول، والعول، والحول، ولو جاز ما قال لجاز القيل. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) *.