فيما ينفعه فيها وفي الدنيا لأنه يطلبها شديدا والغنى من لا يحتاج إلى الطلب ولأن مطلوبه كثيرا ما يفوت عنه والفقر عبارة عن فوات المطلوب وأيضا يبخل عن نفسه وعياله خوفا من فوات الدنيا وهو فقر حاضر.
(وشتت أمره) في الآخرة لكنه فائت المقصود فيها وفي الدنيا لتفرق قلبه في طرق تحصيلها لعدم عمله بما هو المقدر منها.
(ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له) قال الله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) وما جعله الحكيم قسما لكل واحد وهو ما يأكله ويحتاج إليه ما دام العمر يأتيه قطعا وإن لم يبالغ في تحصيله ورفض الكد في طلب الدنيا، وأما ما يجمعه ويتركه فليس قسما له بل لغيره وهو حمال الحطب.
(ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه جعل الله الغنى في قلبه) فيصرف قلبه إلى الله معرضا عما عداه ويعطف فكره إلى إحسانه غافلا عما سواه ويثق بوصول رزقه معتمدا على وعد مولاه ولا يحتاج في شيء من أموره إلى الأنام ولا يطلب قضاء حوائجه من الخواص والعوام والغنى عبارة عن هذه الأمور.
(وجمع له امره) في الآخرة لكونه عاملا لها وفي الدنيا لتفرغ خاطره عنها فضلا عما فيها مما يغتر به المفتونون بها، وبالجملة تفرق القلب في الدنيا وتزلزله انما هو لطلب الرزق وعدم العلم بموضعه والله سبحانه رفع عنه ذلك التفرق والتزلزل وأمر الدنيا بخدمته فيأتيه رزقه من حيث لا يحتسب بل زائد عليه كما قيل: اترك الدنيا كلها وخذها كلها فإن تركها في أخذها وأخذها في تركها.
16 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن سنان، عن حفص بن قرط، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من كثر اشتباكه بالدنيا كان أشد لحسرته عند فراقها.
* الشرح:
قوله (من كثر اشتباكه بالدنيا كان أشد لحسرته عند فراقها) اشتباك «بهم در رفتن» يقال اشتبكت النجوم إذا كثرت وانضمت وكل متداخلين مشتبكان ومنه تشبيك الأصابع لدخول بعضها في بعض، وفيه ترغيب في رفض الدنيا وترك محبتها لئلا يشتد الحزن والحسرة في مفارقتها فإن من أحب شيئا تحزن وتحسر من مفارقته وكلما زاد المحبوب زاد الحزن والحسرة كما أشار إليه أيضا أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «وكلما عظم قدر الشيء المتنافس فيه عظمت الرزية لفقده» وذلك لشدة المحبة ومن ثم قيل: ومن أكبر المصالح ترك محبوب لابد من مفارقته تركا باستدراج النفس واستغفالها كي لا يفدحه مفارقته دفعة مع تمكن محبته من جوهرها فيبقى كما نقل من معشوقه إلى