إن الذي أوجب أن تقف كميات من المفاهيم والغرائز فلا تتحول إلى أحاسيس وأن تقف كميات من الأحاسيس فلا تتحول سلوكا. هو القوة والضعف في المفاهيم والغرائز والأحاسيس، فبينما تأخذ الغريزة الأقوى والمفهوم الأقوى طريقهما ليتجسدا في النفس إحساسا، يبقى المفهوم والغريزة الأضعف مجرد مفهوم مختزن في الذهن ومجرد نزعة في النفس.
وبينما يأخذ الاحساس الأقوى طريقه ليتجسد سلوكا يبقى الاحساس الأضعف مجرد إحساس مختزن لا يحرك عصبا ولا يدفع إلى عمل.
وتبرز هنا بوضوح حاجة الإنسان إلى الدين، فما دامت نفس الإنسان تحوي كميات كبيرة من الغرائز الميول الطبيعية الخيرة والشريرة وما دام تركها وشأنها يؤدي إلى غلبة الغرائز التي تملك الإثارة من الظروف الحياتية للإنسان وهي الغرائز الجنسية والأنانية والغذائية على الأكثر. فإن معنى ذلك أن تأخذ هذه الغرائز طريقها لتتجسد إحساسا فسلوكا ويعيش الإنسان بها على حساب مفاهيمه وعقله ولا يكون فرق بينه وبين الحيوان لأن كلا منهما حينئذ يصدر في سلوكه عن مجرد الغريزة وحسب (والذين كفروا يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام).
أما الدين فهو يقدم للإنسان المفاهيم التي تنمي في نفسه الغرائز الخيرة وتهذب الغرائز الشريرة، ثم يقدم له المنهج التربوي لتحويل كافة الغرائز والمفاهيم المزكاة إلى أحاسيس، ثم يدفع بهذه الأحاسيس لتتجسد في سلوك عملي، ويجعل القائم على هذه العملية عقل الإنسان حيث ينيط به وعي المنهج التربوي وتنفيذه.