شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٠ - الصفحة ٥٥٣
يقول: السلام عليكم أهل بيت النبوة، تأسروننا ولا تطعموننا، أطعموني فأنا أسير، فأعطوه الطعام!
وأقبل علي ومعه الحسن والحسين يرتعشان كالفرخين من شد الجوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا الحسن! لشد ما يسوءني ما أدرككم، انطلقوا بنا إلى ابنتي فاطمة. فانطلقوا إليها وهي في محرابها، وهي قد غارت عيناها من شدة الجوع، فقال عليه الصلاة والسلام: وا غوثاه! ثم ضمها إليه.
فأنزل الله تعالى آيات من سورة الانسان أولها الآية (هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا).. إلى قوله تعالى: (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا). وفيها يتحدث سبحانه عن الأبرار: (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا. ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا).
على أن حياة الشظف لم تشغل عليا ولا فاطمة عن المتاع العقلي والروحي وما كانا يجدانه في تدارس القرآن، وتعمق معانيه، وفي تدبر السنة الشريفة وفي التفكير في خلق السماوات والأرض كما أمر الله عباده أولي الألباب.
كان علي يستشير امرأته، ويبرها، ويسكن إليها، ويستقيم على طريق الهداية كما أمر الله ورسوله.
وما انفك الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي الرجال بحقوق النساء، وبحسن صحبتهن، ورعايتهن.
وعلي وفاطمة يتبادلان المعارف، ولا يأنف أحدهما أن يستقي من الآخر علما لا يعلمه.
وإن هذا التقدير للنساء هو من تقاليد الفرسان ومن آداب الفتوة التي كان يحرص عليها علي كرم الله وجهه، وهو أفتى فرسان الله، وأحرص الناس على اتباع الرسول.
ويروى عنه أنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: أي شئ خير للمرأة؟ فلم يكن عندنا لذلك جواب. فلما رجعت إلى فاطمة قلت: يا بنت محمد! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألنا عن مسألة فلم ندر كيف نجيبه. فقالت: وعن أي شئ سألكم؟ فقلت قال: أي شئ خير للمرأة؟ قالت: فما تدرون ما الجواب؟ قلت لها: لا، فقالت: ليس خير للمرأة من أن لا نرى رجلا ولا يراها! فلما كان العشي جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله إنك سألتنا عن مسألة فلم نجبك عليها، ليس للمرأة شئ خير من ألا ترى رجلا ولا يراها. قال: ومن قال ذلك؟ قلت: فاطمة. قال: صدقت فاطمة إنها بضعة مني.
وعن صدقها قالت عائشة: ما رأيت أحدا قط أصدق من فاطمة غير أبيها.
ولقد أهدى إلى علي وفاطمة بعض الفالوذج فأطعماه أولادهما ولم يطعما منه.
وقال علي وقد وضعه أمامه: إنك طيب الريح حسن اللون طيب الطعم، لكني أكره أن أعود نفسي ما لم تعتده، والفالوذج حلوى تصنع من الدقيق والماء والعسل.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم كلما عاين زهده وورعه، أثنى عليه، ودعا الله له ولزوجه وبنيه.. قال له يوما: يا علي! إن الله تعالى قد زينك بزينة لم تزين العباد بزينة أحب إلى الله تعالى منها وهي زينة الأبرار عند الله عز وجل: الزهد في الدنيا، فجعلك لا ترزأ (أي تصيب) من الدنيا شيئا ولا ترزأ منك الدنيا شيئا، ووهب لك حب المساكين، فجعلك ترضى عنهم أتباعا ويرضونك إماما، فطوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب عليك، فأما الذين أحبوك وصدقوا فيك فهم (في الآخرة) جيرانك في دارك ورفقاؤك في قصرك، وأما الذين أبغضوك وكذبوا عليك فحق على الله أن يوقفهم موقف الكذابين.
كان عليه الصلاة والسلام عندما يأخذ عليا وفاطمة بآداب الدين يطرح لهما السؤال فإذا وافق الجواب ما يريد أن يعلمهما إياه استحسنه، وإلا صححه.. سأله الرسول يوما: يا علي! كيف أنت إذا زهد الناس في الآخرة ورغبوا في الدنيا، وأكلوا التراث أكلا لما، وأحبوا المال حبا جما؟.
قال علي: أتركهم وما اختاروا وأختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأصبر على مصيبات الدنيا وبلواها حتى ألحق بك إن شاء الله تعالى، قال الرسول: صدقت، اللهم افعل ذلك به.
وما كان زهد علي في الدنيا زهد هارب منها، ولكنه زهد المنشغل عن إسعاد نفسه بمتاعها، إلى إسعاد الآخرين، ومن أجل ذلك أحب من اللباس أخشنها وهو الصوف!!
وإنه في أغوار نفسه ليشعر بالرضا كلما أمكنه أن يسد حاجة لمحتاج، ولو بكل ما عنده، واثقا في أن الله سيعوضه خيرا.. فما هو زهد العازف عن الحياة، ولكنها تقوى العارف بالله!
جلس في سوق المدينة المنورة ومعه ابنه الحسن وهو صغير، ومر سائل مسكين، فرق علي له فقال للحسن: اذهب إلى أمك فقل لها: تركت عندك ستة دراهم، فهات منها درهما. فذهب الحسن إلى أمه ثم رجع إلى أبيه فقال: أمي تقول لك إنما تركت ستة دراهم للدقيق، فقال علي: لا يصدق إيمان عبد حتى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده، قل لها ابعثي بالدراهم الستة جميعا، فبعثت بها إليه فدفعها كلها إلى السائل، وبعد لحظات مر به رجل معه جمل يبيعه. فقال علي: بكم الجمل؟ قال الرجل: بمائة وأربعين درهما. قال علي للرجل إنه يشتري الجمل، ولكنه سيدفع ثمنه بعد حين! فوافق صاحب الجمل، وتركه لعلي ومضى. ثم أقبل رجل آخر فقال: لمن هذا البعير. قال علي لي، قال الرجل: أتبيعه، قال: بكم؟ قال: بمائتي درهم. فأخذ الرجل البعير وأعطى عليا المائتين، فأعطى صاحب الجمل - حين عاد إليه - حقه، وهو مائة وأربعون درهما، وجاء بستين درهما إلى فاطمة، فقالت: ما هذا؟ قال: هذا ما وعدنا الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم (من جاء بالحسنة فلها عشر أمثالها).
عربد عليه أحد حساده، فنصحه بعض أن يشكوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأستحي من الله أن يكون هناك ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أعظم من حلمي، أو عورة لا يداريها ستري، أو خلة (الحاجة والفقر) لا يسدها جودي.
وكان أحيانا لا يجد عملا يقتات منه إلا أن يملأ الدلو في بستان أحد الأغنياء من يهود المدينة، ليروي به البستان، وكان اليهودي يعطيه في كل دلو تمرة، فيعود إلى فاطمة بتمر يطعمها هي وأولادها، وربما أهدى منه الرسول، إذا أصابته عليه الصلاة والسلام خصاصة.. ولكم كانت تصيبه!! هكذا كان يؤتي ماله يتزكى، وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى.. وفي الحق أنه كان عند ربه مرضيا.
وقال العلامة محمد بن عبد الله الإسكافي في " المعيار والموازنة " ص 78 ط بيروت:
نعم ثم [كان] ينتقص بالفقر، ويعير به في وقت قد عم تمكن الاسلام واعتدل بأهله، وقوي بظهوره حين خطب النبي صلى الله عليه وسلم لعلي فاطمة عليهما السلام، عيرته قريش بالفقر، وقلة المال، وألقوا ذلك إلى فاطمة عليها السلام، حتى شكت إلى أبيها، وقالت: زوجتني أحدثهم سنا، وأقلهم مالا، فقال لها: إن الله زوجك [منه] من السماء، ولو علم خيرا منه لزوجك منه.
فهيهات هيهات، من يصبر على محنة الفقر أيام حياته، ويقاسي عدم الكفاية أيام بقائه؟ إلا من قلت الدنيا في عينه، وباشر من حقائق الصبر ما سره، وقوى من قمع [هوى] النفس وزمها، وحسن تأديبها على ما قوي عليه، رضي الله عنه وبيض وجهه.
فلذلك أجرى الله على لسانه ينابيع الحكمة، وعرفه داء الدنيا ودواءها، وما يحل بأهلها من أجل طلبها.
فتدبروا كلامه، وتفهموا صفاته لتعلموا أن المعرفة الثابتة أدته إلى هذه المنزلة [و] هو القائل في صبر العلماء، وما يلقون من مصائب الدنيا في بعض كلامه لكميل بن زياد.