شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٠ - الصفحة ٥٥٣
بنت محمد، فهن يتهادينه بينهن إلى يوم القيامة (1).
1) قال الفاضل المعاصر عبد الرحمن الشرقاوي في " علي إمام المتقين " ج 1 ص 29 ط مكتبة غريب الفجالة:
غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض كبار المهاجرين والأنصار يخطبون إليه ابنته فاطمة، فسكت عنهم الواحد بعد الآخر، حتى جاءه علي فوافق على مهر قليل، سأل النبي فيه عليا إن كان يطيقه وإلا خففه عنه، فأبدى علي سروره، وانطلق يدبر المهر. دعا الرسول عددا من المهاجرين والأنصار فقال لهم: إن الله جعل المصاهرة سببا لاحقا، وأمرا مفترضا أوشج به الأرحام، وألزم الأنام، فقال عز من قائل (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا)، فأمر الله تعالى يجري إلى قضائه وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)، ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة بنت خديجة من علي بن أبي طالب، فاشهدوا أني زوجته على أربعمائة مثقال فضة.
ثم أهداهما عليه الصلاة والسلام بساطا من الصوف الأبيض.
وخفت نساء الأنصار الثريات، فأهدين فاطمة رداءين جميلين للزفاف، وبعض حقاق من الطيب والعطور، وأقرضنها بعضي الحلي من الذهب والجواهر النادرة.
وأمر رسول الله زوجتيه عائشة وأم سلمة أن تجهزا فاطمة حتى يدخلاها إلى علي، وأن يقوما منها مقام أمها خديجة رحمها الله. فعمدتا إلى بيت ففرشتاه رملا لينا من أعراض البطحاء، ثم إلى وسادتين فرشتاهما ليفا نفشتاه بأيديهما، وعمدتا إلى عود فعرضتاه في جانب البيت لتلقى عليه الثياب وتعلق القربة. وقالتا بعد العرس: ما رأينا عرسا أحسن من عرس فاطمة.
وما كان جهاز فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سريرا من الخوص مشدودا بالحبال، ووسادتين حشوهما ليف، وبساط صوف، وجلد كبش يقلب على صوفه فيصير فراشا، وإناء به سمن جاف يطبخ به، وقربة للماء، وجرة وكوزا، ورملا مبسوطا..!
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا علي، إنه لا بد للعروس من وليمة. فقال أحد أغنياء الأنصار: عندي كبش، فأعده صاحبه، ودعا علي رهطا من المهاجرين والأنصار، وأحضروا الطيب والزبيب والتمر، ولما طعم المدعوون وانصرفوا، ولم يبق إلا علي، ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي ابنته فاطمة، وكان النساء قد انصرفن عنها بعد انتهاء الوليمة، فوجد معها امرأة، فسألها الرسول عما يبقيها، قال: أنا التي أحرس ابنتك، إن الفتاة ليلة بنائها (زفافها) لا بد لها من امرأة قريبة منها إن عرضت لها حاجة أو أرادت أمرا أفضت بذلك إليها. فقال للمرأة - وهي أسماء بنت عميس: فإني أسال إلهي أن يحرسك من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك من الشيطان الرجيم.
ثم جاءت العروس فاطمة، وقد طيبها النساء بما جئن به إليها من طيب، وزينها وألبسنها بما أهدينا من ثياب جديدة، وحلينها بأغلى حليهن على أن تردها إذا كان الغد!
فلما رأت فاطمة عريسها عليا جالسا إلى جوار أبيها صلى الله عليه وسلم بكت!
وخشي أبوها أن يكون سبب بكائها أنه زوجها فتى لا مال له، آثره بها، وفضله على خطاب كثيرين ردهم من قبل من أغنياء المهاجرين والأنصار، وإن كانوا جميعا لفي سن أبيها!! وعلي وحده أقربهم إلى سنها.
سألها أبوها عما يبكيها، فلم تجب! ما يبكي عروسا ليلة زفافها؟! لعلها تذكرت أمها الراحلة السيدة الطاهرة أم المؤمنين خديجة! فتمنت لو أنها كانت معها بدل أسماء بنت عميس، في هذه الليلة الفريدة من العمر!! ولو أن خديجة أمها هي التي جهزتها بدل زوجتي أبيها!! وحاول الرسول أن يكفكف دمع ابنته بلا جدوى، فقد ظلت دموعها تسيل في صمت، وأخذه عليها إشفاق حزين.. فأقسم لها أنه لم يأل جهدا ليختار لها أصلح الأزواج، وما اختار لها إلا خير فتيان بني هاشم.. وأضاف: والذي نفسي بيده لقد زوجتك فتى سعيدا في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين.
وطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من أسماء أن تأتيه بإناء فيه ماء معطر.. فرش منه على جلد فاطمة وجلده، وعلى رأسها ورأسه وقال: اللهم إنها مني وإني منها، اللهم كما أذهبت عني الرجس وطهرتني فطهرها، اللهم إني أعيذها وذريتها بك من الشيطان الرجيم.
ثم صنع بعلي كما صنع؟ فاطمة، ودعا له كما دعا لها، وقال: اللهم هؤلاء هم أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فقال علي: يا رسول الله أنا أحب إليك أم هي؟ قال: هي أحب إلي منك، وأنت أعز علي منها، ثم قال: اللهم إني أعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم.
ثم دعا لهما وهو يتركهما وحدهما: جمع الله شملكما وأسعد جدكما وبارك عليكما، وأخرج منكما كثيرا طيبا.
وتعود الرسول أن يزورها، وكان كلما وجد عليهما آثار الفقر والزهد واسى ابنته..
وبشرها أنها ستكون من خير نساء الجنة.. قال: حسبك أن خير نساء العالمين مريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلدوفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون. فأنت منهن.
كان إذا أوصى عليا بها قال: فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها.
وفي الحق أن عليا وضعها على العين والرأس، وأحسن معاملتها.. بل لقد حمل عنها عبء كثير من أعمال البيت!
وقبل أن تعود الغزوات بالغنائم، ويأخذ منها نصيبه، كان يعمل ويؤجر نفسه ويكسب من كد يده، ويعود بما كسب، فيشتري منه ما يقيم الأود.. وعندما رزقا بالبنين ثقلت أعباء الحياة عليهما، وشق عليها عمل المنزل، وما من أحد يساعدها غير زوجها..
ولقد أجهدتها الرحى التي تطحن بها الشعير، وأجهدها عمل المنزل وتربية الأولاد، فسألت أباها بعد إحدى الغزوات التي غنموا فيها كثيرا أن يمنحها ما يساعدها، ولكنه ما كان ليعطيها غير ما يستحقه زوجها!
ولقد تأخر بلال يوما عن الأذان، فسأله الرسول عما أخره، فأخبره أنه مر بدار علي فوجد فاطمة مجهدة تدير الرحى، وابنها الحسن يبكي، فآثر أن يدير الرحى ويطحن عنها الشعير، للتفرغ هي لإرضاع الطفل!!
ومرض الحسن والحسين، وهما صبيان، فعادهما جدهما ومعه بعض صحابته، ونبه فاطمة وهو على باب دارهما أن معه غرباء، ورمى إليها بردته وهي خلف الباب لتغطي بها من جسمها ما لا ينبغي أن يراه الغرباء!
وقال أحد الصحابة لعلي: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا. فقال علي: إن برئا مما بهما صمت لله عز وجل ثلاثة أيام شكرا. وقالت فاطمة كذلك. وقال الغلامان كذلك. فلما برئا أصبح الجميع صياما وما في الدار شئ من طعاميفطرون عليه.
فغدا علي بن أبي طالب على جار يهودي له يدعى شمعون، كان يعالج الصوف، فقال له: هل لك أن تعطيني جزة من الصوف تغزلها لك بنت محمد بثلاثة أصوع من شعير؟، قال: نعم، فأعطاه فجاء بالصوف والشعير، فأخبر فاطمة، فقبلت وأطاعت.
ثم غزلت ثلث الصوف، وأخذت صاعا من شعير فطحنته وعجنته وخبزته.. وصلى علي المغرب بالمسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى منزله ليفطر، فوضع الخوان فجلسوا فأول لقمة كسرها علي، إذا مسكين واقف على الباب فقال: يا أهل بيت محمد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فدفع علي الطعام إلى المسكين. وباتوا جياعا، وأصبحوا صياما!
وفي اليوم التالي طحنت فاطمة الصاع الثاني، وخبزته، ووضعت الطعام ليفطروا، إذ وقف بالباب يتيم من أولاد المهاجرين استشهد أبوه، فأعطوه الطعام!. وفي اليوم الثالث طحنت آخر صاع وخبزته، وعند المغرب وضعت الطعام، إذ وقف بالباب أسير