التقى فيه شرف النسب، وشرف النفس، والعزة الهاشمية، مع العلم الذي انصرف إليه، ولم يجد عملا له دون سواه. وقد قالوا إنه لقب بالباقر لأنه لما اشتهر بالعلم ونفاذ البصيرة فيه قيل كأنه بقر العلم أي شقه ووصل إلى لبابه وأقصى غايته. وعمه الإمام زيد بن علي أستاذ أبي حنيفة، وصاحب واصل بن عطاء، كان عالما في الفقه وفي العقائد، وحسبك أن أبا حنيفة شيخ الفقهاء قد أخذ عنه. وابن عمه عبد الله بن حسن كان إماما في الفقه والحديث، وقد أخذ عنه أبو حنيفة أيضا. فالإمام جعفر نشأ في ذلك البيت العلمي، وكان مقامه مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت مثابة الحديث، وفقه الصحابة والتابعين، ولذلك كان من أعلم الناس بأقوال العلماء وقد علم فقه الأثر، وفقه الرأي معا، ولقد قال أبو حنيفة في مقدار علمه " ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد الصادق ". وقد روي أن أبا جعفر المنصور قال: يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيئ من المسائل الشداد ما تسأله به، فهيأ له أربعين مسألة، وإن أبا حنيفة يقول في لقائه وعرض هذه المسائل: " أتيته فدخلت عليه (أي على أبي جعفر المنصور) وجعفر بن محمد جالس عن يمينه فلما بصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور، فسلمت عليه، وأومأ فجلست، ثم التفت إليه، فقال: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة. فقال: نعم، ثم التفت إلي فقال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد الله مسائلك، فجعلت ألقي عليه فيجيبني، فيقول:
أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا، وربما تابعهم، وربما خالفنا، حتى أتيت على الأربعين مسألة، ما أخل منها مسألة واحدة. ثم قال أبو حنيفة: أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.
فإذا كان قد تلقى العلم بالمدينة، فهو لم ينقطع عن علم العراق، بل كان يعرفه كما حكى شيخ فقهاء العراق وإمام القياسين في الفقه الاسلامي.