إرادة القيام بأمر الناس مخافة البائقة وفساد العاجلة والآجلة، والقلوب على ما وصفنا والمنافقون على ما ذكرنا، يعضون عليهم الأنامل من الغيظ وأهل الردة على ما بينا والأنصار قد خالفوا المهاجرين، وانحازوا عنهم يقولون منا أمير ومنكم أمير و. و. فدعاه النظر للدين إلى الكف عن الاظهار والتجافي عن الأمور، وعلم أن طلب الخلافة والحال هذه يستوجب التغرير في الدين والخطر بالأمة فاختار الكف ضنا بالدين وإيثارا للآجلة على العاجلة.
غير أنه قعد في بيته (ولم يبايع حتى أخرجوه كرها) احتفاظا بحقه واحتجاجا على من عدل عنه، ولو أسرع إلى البيعة ما تمت له حجة ولا سطع له برهان، ولكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين والاحتفاظ بحقه من إمرة المؤمنين، فدل ذلك على أصالة رأيه ورجاحة علمه وسعة صدره وشدة زهده وفرط سماحه وقلة حرصه، ومتى سخت نفس امرئ عن هذا الخطب الجليل والأمر الجزيل ينزل من الله تعالى بغاية منازل الدين، وإنما كانت غايته مما فعل أربح الحالين له وأعود المقصودين عليه.
أما الخليفة الأول وأتباعه رضي الله تعالى عنهم أجمعين فقد تأولوا النص عليه بالخلافة للأسباب التي قدمناها، ولا عجب منه في ذلك بعد الذي نبهناك إليه من عدم تعبدهم بما كان من نصوصه صلى الله عليه وآله وسلم، متعلقا بالسياسات والتأميرات وتدبير قواعد الدولة وتقرير شؤون المملكة وإليك مضافا إلى ما تلوناه نبذة من موارد تأولهم تكون نموذجا لرأيهم في تلك النصوص، وحسبك بها أدلة على معذرة المتأولين، وهي كثيرة:
فمنها سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى غزو الروم، وهي آخر السرايا على عهد النبي صلى الله عليه وآله، وقد اهتم فيها بأبي هو وأمي اهتماما عظيما، فأمر أصحابه بالتهيؤ لها وحضهم على ذلك، ثم عبأهم بنفسه الزكية إرهافا لعزائمهم واستنهاضا لهممهم، فلم يبق أحدا من وجوه المهاجرين