وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتياء وأن كل من اجتهد في شئ من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على كل حال، إن أصاب فأجران وإن أخطأ فأجر واحد. قال: وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي، وهو قول كل من عرفنا له قولا في هذه المسألة من الصحابة (رض) لا نعلم منهم خلافا في ذلك أصلا.
قلت: هذه الفتوى من هؤلاء الأئمة تقطع دابر المشاغبين وتنقض أساس المهولين، لأن خصومهم من أهل القبلة لم يقولوا قولا ولم يعتقدوا أمرا إلا بعد الاجتهاد التام واستفراغ الوسع والطاقة، وبذل الجهد في الاستنباط من الكتاب والسنة وكلام أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم، ولم يدينوا إلا بما رأوا أنه الحق واعتقدوا عين الصواب، فيكونون بحكم هؤلاء الأعلام (وهم أئمة السلف والخلف) مأجورين، وإن أصابوا أو أخطأوا على رغم من يبتغي تكفير المؤمنين، ويدأب مجتهدا في تفريق المسلمين.
وكان أحمد بن زاهر السرخسي (وهو أجل أصحاب الإمام أبي الحسن الأشعري) يقول: (فيما نقله الشعراني عنه في أواخر المبحث 58 من يواقيته) لما حضرت الشيخ أبا الحسن الأشعري الوفاة بداري في بغداد أمرني بجمع أصحابه، فجمعتهم له فقال: اشهدوا علي أنني لا أكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، لأني رأيتهم كلهم يشيرون إلى معبود واحد، والإسلام يشملهم ويعمهم. هذا كلام إمام السنيين وكفى به حجة تدحض أقاويل المبطلين، وقد تواتر القول بعدم تكفير أهل الأهواء والبدع من أهل القبلة عن الإمام الشافعي، حتى قال: (كما في خاتمة الصواعق) أقبل شهادة أهل البدع إلا الخطابية (8).