استأثر الله بالوفاء وبال * حمد وولى الملامة الرجلا قال: وتأويله عندي أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند الحوادث والنوازل تنزل بهم، من موت أو هرم، فيقولون أصابتهم قوارع الدهر وحوادثه، وأبادهم الدهر، فيجعلون الدهر الذي يفعل ذلك فيذمونه، وقد ذكروا ذلك في أشعارهم، وأخبر الله تعالى عنهم بذلك في كتابه العزيز (1)، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال " لا تسبوا الدهر.. " على تأويل لا تسبوا [الدهر] (2) الذي يفعل بكم هذه الأشياء، فإنكم إذا سببتم فاعلها فإنما يقع السب على الله، لأنه الفاعل لها لا الدهر. فهذا وجه الحديث.
قال الأزهري: وقد فسر الشافعي هذا الحديث بنحو ما فسره أبو عبيد، فظننت أن أبا عبيد حكى كلامه.
وقال المصنف في البصائر: والذي يحقق هذا الموضع ويفصل بين الروايتين هو قوله: " فإن الدهر هو الله "، حقيقته: فإن جالب الحوادث هو الله لا غير، فوضع الدهر موضع جالب الحوادث، كما تقول: إن أبا حنيفة أبو يوسف، تريد أن النهاية في الفقه هو أبو يوسف لا غيره. فتضع أبا حنيفة موضع ذلك لشهرته بالتناهي في فقهه، كما شهر عندهم الدهر بجلب الحوادث.
ومعنى الرواية الثانية " إن الله هو الدهر "، فإن الله هو الجالب للحوادث لا غير، ردا لاعتقادهم أن جالبها الدهر، كما إذا قلت: إن أبا يوسف أبو حنيفة، كان المعنى أنه النهاية في الفقه. وقال بعضهم: الدهر الثاني في الحديث غير الأول، وإنما هو مصدر بمعنى الفاعل، ومعناه إن الله هو الدهر، أي المصرف المدبر المفيض لما يحدث، انتهى.
قلت: وما ذكره من التفصيل وتأويل الروايتين فهو بعينه نص كلام الأزهري في التهذيب، ما عدا التمثيل بأبي يوسف وأبي حنيفة.
وأما القول الأخير الذي عزاه لبعضهم فقد صرحوا به، واستدلوا بالآية (يدبر الأمر يفصل الآيات (3))، ونسبوه للراغب.
وقد عد المدبر في الأسماء الحسنى الحاكم والفريابي من رواية عبد العزيز بن الحصين، كما نقله شيخنا عن الفتح، ولكن يخالفه ما في المفردات له بعد ذكر معنى الدهر تأويل الحديث بنحو من كلام الشافعي وأبي عبيد، فليتأمل ذلك.
قال شيخنا: وكأن المصنف رحمه الله قلد في ذلك الشيخ محيي الدين ابن عربي قدس سره، فإنه قال في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات: الدهر من الأسماء الحسنى، كما ورد في الصحيح، ولا يتوهم من هذا القول الزمان المعروف الذي نعده من حركات الأفلاك ونتخيل من ذلك درجات الفلك التي تقطعها الكواكب، ذلك هو الزمان، وكلامنا إنما هو في الاسم: الدهر، ومقاماته التي ظهر عنها الزمان، انتهى.
ونقله الشيخ إبراهيم الكوراني شيخ مشايخنا، ومال إلى تصحيحه. قال: فالمحققون من أهل الكشف عدوه من أسماء الله بهذا المعنى، ولا إشكال فيه. وتغليط عياض القائل بأنه من أسماء الله مبني على ما فسره به من كونه مدة زمان الدنيا، ولا شك أنه بهذا المعنى يغلط صاحبه. أما بالمعنى اللائق كما فسره الشيخ الأكبر، أو المدبر المصرف، كما فسره الراغب، فلا إشكال فيه، فالتغليط ليس على إطلاقه.
قال شيخنا: وكان الأشياخ يتوقفون في هذا الكلام بعض التوقف لما عرضته عليهم ويقولون: الإشارات الكشفية لا يطلق القول بها في تفسير الأحاديث الصحيحة المشهورة، ولا يخالف لأجلها أقوال أئمة الحديث المشاهير، والله أعلم.
وقيل الدهر: الزمان قل أو كثر، وهما واحدا، قاله شمر، وأنشد:
إن دهرا يلف حبلى بجمل * لزمان يهم بالإحسان