بشر أراد به إمحاق دينهم * لان دينهم والله ممحوق يا قوم أصبح عقل من خليفتكم * مقيدا وهو في الأغلال موثوق وقد سأل بشر من المأمون أن يطلب قائل هذا فيؤدبه على ذلك، فقال: ويحك لو كان فقيها لأدبته ولكنه شاعر فسلت أعرض له. ولما تجهز المأمون للغزو في آخر سفرة سافرها إلى طرسوس استدعى بجارية كان يحبها وقد اشتراها في آخر عمره، فضمها إليه فبكت الجارية وقالت: قتلتني يا أمير المؤمنين بسفرك ثم أنشأت تقول:
سأدعوك دعوة المضطر ربا * يثيب على الدعاء ويستجيب لعل الله أن يكفيك حربا * ويجمعنا كما تهوى القلوب فضمها إليه وأنشأ يقول متمثلا:
فيها حسنها إذ يغسل الدمع كحلها * وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل صبيحة قالت في العتاب (1) قتلتني * وقتلي بما قالت هناك تحاول ثم أمر مسرورا الخادم بالاحسان إليها والاحتفاظ عليها حتى يرجع، ثم قال: نحن كما قال الأخطل:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم * دون النساء ولو باتت باطهار ثم ودعها وسار فمرضت الجارية في غيبته هذه، ومات المأمون أيضا في غيبته هذه، فلما جاء نعيه إليها تنفست الصعداء وحضرتها الوفاة وأنشأت تقول وهي في السياق:
إن الزمان سقانا من مرارته * بعد الحلاوة كاسات فأروانا أبدى لنا تارة منه فأضحكنا * ثم انثنى تارة أخرى فأبكانا إنا إلى الله فيما لا يزال بنا * من القضاء ومن تلوين دنيانا دنيا تراها ترينا من تصرفها * ما لا يدوم مصافاة وأحزانا ونحن فيها كأنا لا يزايلنا * للعيش أحيا وما يبكون موتانا كانت وفاة المأمون بطرسوس في يوم الخميس وقت الظهر وقيل بعد العصر، لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب من سنة ثماني عشرة ومائتين، وله من العمر نحو من ثمان وأربعين سنة، وكانت مدة خلافته عشرين سنة وأشهرا، وصلى عليه أخوه المعتصم وهو ولي العهد من بعده، ودفن بطرسوس في دار خاقان الخادم، وقيل كانت وفاته يوم الثلاثاء، وقيل يوم الأربعاء لثمان بقين من هذه السنة. وقيل