يكن له بصيرة نافذة فيه، فدخل عليه بسبب ذلك الداخل، وراج عنده الباطل. ودعا إليه وحمل الناس عليه قهرا. وذلك في آخر أيامه وانقضاء دولته. وقال ابن أبي الدنيا: كان المأمون أبيض ربعة حسن الوجه قد وخطه الشيب يعلوه صفرة أعين طويل اللحية رقيقها ضيق الجبين، على خده خال. أمه أم ولد يقال لها مراجل. وروى الخطيب عن القاسم بن محمد بن عباد قال: لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء غير عثمان بن عفان والمأمون، وهذا غريب جدا لا يوافق عليه، فقد كان يحفظ القرآن عدة من الخلفاء. قالوا: وقد كان المأمون يتلو في شهر رمضان ثلاثا وثلاثين ختمة، وجلس يوما لاملاء الحديث فاجتمع حوله القاضي يحيى بن أكثم وجماعة فأملى عليهم من حفظه ثلاثين حديثا. وكانت له بصيرة بعلوم متعددة، فقها وطبا وشعرا وفرائض وكلاما ونحوا وغريبه، وغريب حديث، وعلم النجوم.
وإليه ينسب الزيج المأموني. وقد اختبر مقدار الدرجة في وطئه سنجار فاختلف عمله وعمل الأوائل من الفقهاء. وروى ابن عساكر أن المأمون جلس يوما للناس وفي مجلسه الأمراء والعلماء، فجاءت امرأة تتظلم إليه فذكرت أن أخاها توفي وترك ستمائة دينار، فلم يحصل لها سوى دينار واحد. فقال لها المأمون على البديهة: قد وصل إليك، حقك، كان أخاك قد ترك بنتين وأما وزوجة واثني عشر أخا وأختا واحدة وهي أنت، قالت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: للبنتين الثلثان أربعمائة دينار، وللأم السدس مائة دينار، وللزوجة الثمن خمسة وسبعون دينارا، بقي خمسة وعشرون دينارا لكل أخ ديناران ديناران، ولك دينار واحد. فعجب العلماء من فطنته وحدة ذهنه وسرعة جوابه. وقد رويت هذه الحكاية عن علي بن أبي طالب.
ودخل بعض الشعراء على المأمون وقد قال فيه بيتا من الشعر يراه عظيما، فلما أنشده إياه لم يقع منه موقعا طائلا، فخرج من عنده محروما، فلقيه شاعر آخر فقال له: ألا أعجبك! أنشدت المأمون هذا البيت فلم يرفع به رأسا. فقال: وما هو؟ قال قلت فيه:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا * بالدين والناس بالدنيا مشاغيل فقال له الشاعر الآخر: ما زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها. فهلا قلت كما قال جرير في عبد العزيز بن مروان:
فلا هو في الدنيا مضيع (1) نصيبه * ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله وقال المأمون يوما لبعض جلسائه: بيتان اثنان لاثنين ما يلحق بهما أحد، قول أبي نواس:
إذا اختبر الدنيا لبيب تكشفت * له عن عدو في لباس صديق وقول شريح: