وبالجملة، فضابط التواتر ما حصل العلم عنده من أقوال المخبرين، لا أن العلم مضبوط بعدد مخصوص، وعلى هذا فما من عدد يفرض كان أربعة أو ما زاد، إلا ويمكن أن يحصل به العلم، ويمكن أن لا يحصل. ويختلف ذلك باختلاف القرائن.
وما ذكر في كل صورة من أن تعيين ذلك العدد فيها إنما كان لحصول العلم بخبرهم، تحكم لا دليل عليه، بل أمكن أن يكون لأغراض أخر غير ذلك، أو أن ذلك واقع بحكم الاتفاق.
وعلى قولنا بأن ضابط التواتر حصول العلم عنده يمتنع الاستدلال بالتواتر على من لم يحصل له العلم منه، وإنما المرجع فيه إلى الوجدان، هذا ما يرجع إلى الشرائط المعتبرة المتفق عليها.
وأما الشروط المختلف فيها فستة:
الأول: ذهب قوم إلى أن شرط عدد التواتر أن لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد، ومذهب الباقين خلافه، وهو الحق.
وذلك، لأنه قد يحصل العلم بخبر أهل بلد من البلاد، بل بخبر الحجيج، أو أهل الجامع بواقعة وقعت، وحادثة حدثت، مع أنهم محصورون.
الثاني: ذهب قوم إلى اشتراط اختلاف أنساب المخبرين وأوطانهم وأديانهم، وهو فاسد، لأنا لو قدرنا أهل بلد اتفقت أديانهم وأنسابهم، وأخبروا بقضية شاهدوها، لم يمتنع حصول العلم بخبرهم.
الثالث: ذهب بعضهم إلى أن شرط المخبرين أن يكونوا مسلمين عدولا، لان الكفر عرضة للكذب والتحريف، والاسلام والعدالة ضابط الصدق والتحقيق في القول، ولهذه العلة اختص المسلمون بدلالة إجماعهم على القطع، ولأنه لو وقع العلم بتواتر خبر الكفار، لوقع العلم بما أخبر به النصارى، مع كثرة عددهم، عن قتل المسيح وصلبه وما نقلوه عنه من كلمة التثليث، وهو باطل. فإنا نجد من أنفسنا العلم بأخبار العدد الكثير، وإن كانوا كفارا، كما لو أخبر أهل قسطنطينية بقتل ملكهم. وليس ذلك إلا لان الكثر مانعة من التواطئ على الكذب، وإن لم يكن ذلك ممتنعا فيما كان دون تلك الكثرة.