ولقائل أن يقول: سلمنا أن النظر عبارة عما ذكر، لكن لا نسلم تحققه فيما نحن فيه. وما المانع أن يكون اتفاقهم على الكذب، لا لغرض مع كونه مقدورا لهم، فإن قال بأن العادة تحيل اتفاق الجمع الكثير على الكذب لا لغرض ومقصود.
قلنا: والعادة أيضا تحيل اتفاقهم على الصدق لا لغرض ومقصود، فلم قلت بعدم الغرض في الصدق دون الكذب، وإذا لم يكن غرض، فليس الصدق أولى من الكذب.
فإن قلنا: الغرض في الصدق كونه صدقا، لكونه حسنا، ولا كذلك الكذب لكونه قبيحا، فهو مبني على التحسين والتقبيح العقلي، وقد أبطلناه.
فإن قال: المراد إنما هو التحسين والتقبيح العرفي دون العقلي، ولا شك أن أهل العرف يعدون الكذب قبيحا، والصدق حسنا.
قلنا: التحسين والتقبيح العرفي راجع إلى موافقة الغرض ومخالفته. وعلى هذا، فلعل الكذب من حيث هو كذب فيما أخبروا به موافق لاغراضهم دون الصدق، فكان حسنا، كما في اتفاقهم على الصدق في بعض ما أخبروا به، سلمنا أنهم لا يجمعون على الكذب إلا لغرض، ولكن ما المانع منه؟ فإنا قد نجد الجمع الكثير متفقين على وضع الأحاديث والاخبار لحكمة عائدة إليهم، وذلك كأهل مدينة أو جيش عظيم اتفقوا على وضع خبر لا أصل له، إما لدفع مفسدة عنهم لا سبيل إلى دفعها إلا به، وإما لجلب مصلحة لا تحصل إلا به. وهذا مما يغلب مثله في كل عصر وزمان حتى إن أكثر الاخبار العامة الشائعة الواقعة في المعتاد كذلك.
فإن قال بأن ذلك، وإن كان واقعا، إلا أن العادة تحيل دوامه، وتوجب انكشافه عن قرب من الزمان.
قلنا: فإذا آل الامر إلى التمسك بالعادة في استحالة اتفاقهم على الكذب دائما فما المانع أن يقال بأن العادة موجبة لصدق المخبرين، إذا كانوا جمعا كثيرا، وحصول العلم بخبرهم، وليس القول بأن العادة تحيل اتفاقهم على الكذب، ويلزم من ذلك الصدق، أولى من أن يقال العادة توجب اتفاقهم على الصدق، ويلزم من ذلك امتناع اتفاقهم على الكذب، وعند ذلك، فيخرج العلم بخبر التواتر عن كونه نظريا.