فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي قال أبو محمد: قال قوم: النسخ يقع حين نزول الوحي، لان المنسوخ - على ما بينا - إنما هو أمر الله المتقدم لا أفعال المأمورين، إلا أن الغائب لا يقع عليه الملامة، ولا الوعيد إلا بعد بلوغ الامر الناسخ إليه، وكذلك سائر الأوامر التي لم تنسخ هي لازمة لكل من قرب وبعد، ولكل من لم يخلق بعد، لكن الملامة والوعيد مرفوعان عمن لم يبلغه حتى يبلغه. فإذا بلغته فأطاع حمد وأجر وإن عصى ليم واستحق الوعيد وأجره على فعل منسخ - مما لم يبلغه نسخه - أجر واحد، لأنه مجتهد مخطئ كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. والذي نقول به: إن النسخ لا يلزم إلا إذا بلغ وبين ما قلنا قوله تعالى: * (لأنذركم به ومن بلغ) * فإما أوجب الحكم بعد البلوغ. فلو أن من بلغ المنسوخ - ممن بعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يبلغه الناسخ أقدم على ترك المنسوخ الذي بلغه دون علم الناسخ وعمل بالناسخ، كان عليه إثم المستسهل لترك الفرض، لا إثم تارك الفرض: إنه لا يجوز لمن علم نسخ الحكم أن ينفذ عليه حكم تارك الحكم لأن كل واحد منهما له حكم ما بلغه ومن بلغه تحريم الحكم على الجاهل، لم يجز له أن يحكم عليه بحكم العالم.
مثال ذلك: رجل لقي رجلا فقتله على نية الحرابة، فإذا بذلك المقتول هو قاتل وا الذي قتله، أو وجده مشركا محاربا، فهذا ليس عليه إثم قاتل مؤمن عمدا، ولا قود عليه ولا دية، لأنه لم يقتل مؤمنا حرم الدم عليه، وإنما عليه إثم مريد قتل المؤمن عمدا ولم ينفذ ما أراد، وبين الإثمين بون كبير، لان أحدهما هام، والآخر فاعل، وكإنسان لقي امرأة فظنها أجنبية فوطئها، فإذا بها زوجته، فهذا ليس عليه إثم الزنى، ومن قذفه حد حد القذف، لكن عليه إثم مريد الزنى. ولا حد عليه، ولا يقع عليه اسم فاسق بذلك. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من هم بسيئة فليعملها لم تكتب عليه، ولو أن رجلا ممن بلغه فرض استقبال بيت المقدس ولم يبلغه نسخ ذلك، وصلى إلى الكعبة لكان مفسدا لصلاته