فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إننا قد قلنا في هذا ما يقع فيه من أنه ليس كل بيان نسخا، فما كان من البيان نسخا لم يقع موصولا، وما كان منه غير نسخ لكن تفسيرا لمراده تعالى في جملة ما، فجائز أن يقع موصولا، وجائز أن يقع في مكان آخر من القرآن والسنة، وبالله تعالى التوفيق.
والنسخ ينقسم في اللغة إلى قسمين: أحدهما: التعفية، تقول: انتسخت دولة فلان، ونسخت الربح أو القوم، أي عفته جملة، والقسم الثاني: تجديد الشئ وتكثير أمثاله، تقول: نسخت الكتاب نسخا كثيرة، فالقسم الأول الذي هو التعفية هو الذي قصدناه بالكلام في هذا الباب، ولم نقصد القسم الثاني، وإنما ذكرناه ليوقف عليه وليعلم أنا لا نقصده بالكلام في هذا الباب فيرتفع التخليط والاشكال إن شاء الله تعالى.
فصل في الأوامر في نسخها وإثباتها قال أبو محمد: الأوامر نسخها وإثباتها تنقسم أقساما أربعة لا خامس لها، فقسم ثبت لفظه وحكمه، وقسم ارتفع حكمه ولفظه، وقسم ارتفع لفظه وبقي حكمه، وقسم ارتفع حكمه وبقي لفظه، ففي هذه الأقسام الثلاثة الأواخر يقع النسخ، وأما القسم الذي صدرنا به فلا نسخ فيه أصلا، وأما القسم الذي ارتفع حكمه ولفظه.
فقد روينا أن رجلا قرأ آية وحفظها، ثم أراد قراءتها فلم يقدر، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر عليه السلام أنها رفعت، ومن ذلك العشر الرضعات المحرمات، ومن ذلك السورة التي ذكر أبو موسى الأشعري، أنهم كانوا يقرؤونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت في طول سورة براءة، وأنها نسيت فارتفعت من الحفاظ، إلا آية منها وهي: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب. والسورة التي ذكرها أيضا أبو موسى: أنها كانت تشبه إحدى المسبحات فنسيت، ولم يحفظ منها إلا آية ذكرها، وقد نص الله تعالى على ذلك إذ يقول: * (ما ننسخ من آية أو ننسأها نأت بخير منها أو مثلها) *، وقد روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة فأسقط منها آية، فلما سلم قال: أثم أبي، أو كما قال عليه السلام فأجابه فسأله رسول الله