نصاب من يطلب بركة إشماعيل لنفسه غير منكر أن يسفهوه فيما أحبوا، وهذه صفة جني لعب بعقولهم وسخر منهم، لا صفة الباري تعالى عز وجل، على أنه قد بين لهم في التوراة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنذروا به.
فصح بذلك أن شريعتهم إنما علقت لهم بشرط ما لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم المنتظر، الذي هو رجاء الأمم، والذي يستعلي من جبار فاران، ومعه ألوف من الصالحين، والذي يجعل الله تعالى كلامه في فمه، ومن عصاه انتقم منه، فصار ذلك بمنزلة ما أمروا به من العمل في التيه بأوامر ما، وفي البيت والشام بأوامر أخر، ومثله ما أمروا به من العمل في غير السبت، ثم تحريم العمل في السبت، وبمنزلة صيام وقت ما، والمنع منه في وقت آخر، ومثل إباحة الوطئ في وقت ما، وتحريمه في وقت الحيض وسائر الشرائع المرتبطة بأوقات ما، فإذا عدمت تلك الأوقات انتقل حكم تلك الشرائع، وكل ذلك لا علة له ولا شئ يوجبه أصلا، لا مصلحة ولا غيرها، إلا أنه تعالى أراد ذلك، كما أراد خلق ما خلق من الخلائق المختلفات فقط، وبالله تعالى التوفيق. فكيف وفي توراتهم أن الله تعالى أباح لآدم وبنيه أكل حيوان حاشا الدم، وهذا خلاف شريعة موسى عليه السلام فقد صح النسخ عندهم.
فصل فيما يجوز النسخ فيه وفيما لا يجوز فيه النسخ قال أبو محمد: النسخ لا يجوز إلا في الكلام الذي معناه الامر أو النهي، وقد بينا في كتابنا الموسوم بكتاب التقريب لحدود المنطق: أن الكلام كله ينقسم أربعة أقسام: أمر ورغبة وخبر واستفهام، فالاستفهام والخبر والرغبة لا يقع فيها نسخ، وإنما يسمى الرجوع عن الخبر وعن الاستفهام استدراكا، فكل ذلك منفي عن الله عز وجل، لان الرجوع عنهما إنما هو تكذيب للخبر المرجوع عنه، ومعرفة وكراهية لما رجع عن الاستفهام عنه لعرض حدث أو لعلم بشئ كان يجهل.
وأما الرجوع عن الرغبة فإنما يسمى استقالة أو تنزها عما انحط إليه قبل ذلك، وقد قدمنا أن المعاني إذا اختلفت فواجب أن يخالف بين أسمائها، لئلا يقع الاشكال، وليلوح البيان، ويصح الفهم والافهام، فبقي الرجوع عن الامر بإحداث أمر غيره فيسمى نسخا، وهو فعل من علم أن سيرفع أمره ويحيله. فإذا ورد الكلام لفظه لفظ الخبر،