ههنا شئ أصلا إلا أن الله تعالى أراد أن يحرم علينا بعض ما خلق مدة ما، ثم أراد تعالى أن يبيحه وأراد أن يبيح لنا بعض ما خلق مدة ما، ثم أراد تعالى أن يحرمه علينا ولا علة لشئ من ذلك كما لا علة لبعثه محمدا عليه الصلاة والسلام في العصر الذي بعثه، دون أن يبعثه في العصر الذي كان قبله، وكما لا علة لكون الصلوات خمسا، دون أن تكون ثلاثا أو سبعا.
فصل قال أبو محمد: قال الله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسأها نأتى بخير منها أو مثلها) * وقد قرئ أو ننسها، ومعنى اللفظين مختلف، فالنسخ قد بينا معناه وهو رفع الحكم، وأما ننسها فمعناه من النسيان وهو رفع اللفظ جملة، وأما ننسأها فهو من التأخير، ومعناه أن يؤخر العمل بها إلى مدة معلومة، ويفعل الله من كل ذلك ما شاء لا معقب لحكمه.
فصل اختلف الناس في النسخ على ما يقع، أعلى الامر أم على المأمور به؟
قال أبو محمد: والصحيح من ذلك أن النسخ إنما يقع على الامر، ولا يجوز أن يقع على المأمور به أصلا، لان المأمور به هو فعلنا، وفعلنا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون قد وقع منا بعد، وإما أن يكون لم يقع منا بعد، فإن كان قد وقع منا بعد فقد فني، لان أفعالنا أعراض فانية، ولا يجوز أن ينهى عما قد فني، إذ لا سبيل إلى عودته أبدا.
وكذلك لا يجوز أن يؤمر أيضا بما قد فني، لأنه لا يجوز أن يعود أيضا ولا أن يباح لنا ما قد فني أيضا، لان كل هذا محال، وإن كان لم يقع منا، فكيف ينسخ شئ لم يكن بعد، فصح أن المرفوع إنما هو الامر المتقدم، لا الفعل الذي لم تفعله بعد، فإذا قد صح أن الامر هو المرفوع فهو المنسوخ، والنسخ إنما يقع في الآمر لا في الامر ولا في المأمور به. وبالله تعالى التوفيق.
وبرهان ما ذكرناه قوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسأها) * فأخبر تعالى أن الآية هي المنسوخة لا أفعالنا المأمور بها، والمنهي عنها والآية هي الامر الوارد