ولا رتبة من الرتب، وأنه تعالى خلق النفوس بعد أن لم تكن، وخلق العقول على ما هي عليه بعد أن لم تكن، ورتب فيها الرتب على ما هي عليه بعد أن لم يكن شئ منها، وأنه لو شاء أن يخلق العقول على غير ما هي عليه، وأن يرتب الأمور فيها على خلاف ما رتبها لفعله، ولما تعذر ذلك عليه ولكان حينئذ هو الحق والعدل والحكمة، وما عداه الظلم والجور والعبث، لا معقب لحكمه.
ومن ادعى غير هذا، فقد ادعى أن رتبة العقل المجهول في النفس كانت موجودة، إذ لا عقل ولا نفس، وهذا عين التناقض والخبال والخلف والمحال، ومن أنار الله تعالى عقله وسيره لان يستضئ به، وتصور له حدوث العالم بعد أن لم يكن، أشرف على صحة ما ذكرناه وأيقنه وشاهده وعلمه ضرورة، ولم يكن له عنه محيد أصلا، ومن أصحب الله تعالى نفسه والحيرة، وتمييزه الضعف، تحير وتصور الأمور بخلاف ما هي عليه، ولم يخرج إلى طرف وظن الظنون المردية، ولله تعالى الحمد على ما علم وهدى، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
قال أبو محمد: ومن بديع ما قطع أصحابنا على أنه لا يجوز نسخه، شكر المنعم، وأن كفر المنعم لا سبيل إلى إباحته في العقل أصلا.
قال أبو محمد: فنسأل قائل هذا القول الفاسد فنقول له: ما تقول في رجل استنقذ طفلا قد أشرف الأسد على افتراسه فرباه ولا أب له ولا أم ولا مال فأحسن تربيته، ثم علمه العلوم وأكرمه وبره ولم يذله، ولا استخدمه، وموله وزوجه وخوله، ثم إن ذلك المحسن إليه زنى وهو محصن، وسرق وقذف، ثم تاب من كل ذلك وتعبد، ثم قامت عليه بذلك بينة عدل، وقدم إلى يتيمه - وهو بعد حاكم من حكام المسلمين، فما ترى أن يفعل فيه أيشكر فيعفو عنه ولا سيما وقد تاب؟ أو يأمر بأن يوجع متناه بالسياط، ثم يقطع يده، ثم يأمر بشدخ هامته بالحجارة حتى يموت؟ فإن قال: أرى أن يعفو عنه، كفر إن اعتقد ذلك أو فسق إن أشار بذلك غير معتقد له، وإن قال: أرى أن يوقع به أنواع العذاب الذي ذكرنا فقد ترك مذهبه الفاسد في ألا يكفر إحسان المنعم. فإن قال: إن هذا الفعل هو شكره على الحقيقة. قال خلاف ما ادعى أن العقل يوجبه، وسمى غاية الإساءة إحسانا، فإن رجع إلى أن يقول: إنما يحسن في العقول شكر المنعم